تنبؤات درامية أم سينما متواطئة «51»
كتب ومجلدات دراسات وتحليلات، أفاضت واستفاضت حول عوالم السينما، تشريحا وتوصيفا وتحليلا ونقدا متباينا وكذا رميا بأثقل العبارات، هل السينما مدعاة للملهاة أم الانسلاخ؟.
يقول الفيلسوف السوفيتي سلافي جيجيك: ”السينما تمرر لنا الكثير من المغالطات وتقنعنا بأفكار مسمومة أحيانا، وأخرى تكشف لنا أقنعة زائفة تضمر داخلها مغالطات مسكوتا عنها، عديد الأفلام الهوليوودية والأوروبية التي تنطوي على أيديولوجيات خادعة، تصور لنا واقعا نراه بعيون مغلقة وعقول نائمة“.
توصيف يرى خلف الصورة وما تجوس به السينما من تخدير للحواس، إنها فتنة دراما تغري الناظر وتتسلل له كنشوة سكر لكنها تبسط طيشها المستحكم في الوعي والإدراك، وتصبح الأنا أنا الآخر، صوته، رؤياه بحد التماهي!
أيطول تلبس الأنا أم تقصر أنفاسها، وبأي حال سيكون، وشباك المصيدة تترى بأفلام استفحل سكرها في الحشود اللاهية، حوتها وطوقتها بمفاهيمها الإمبريالية ومدت ذراعيها الاستلابي باسم الفن إلى خارج قاعات السينما فاتت ؤكلها حينا وبعد حين.
توصيفات صائبة لنقاد لا يسمع صوتهم وسط ضجيج مكينة الإعلام الصاخب، كنظرة الفيلسوف جيجك النافذة والناقدة، التي تتقاطع مع قلة من المفكرين المستقلين، ولكتاب آخرين غير مرتهنين للرؤية المؤدلجة، أفواه حرة تصرخ ومن غير تكميم تقول ما لا يرى ولا يحب أن يسمعه صناع الأوهام السينمائية.
برغم كل الانتقادات الصارمة واللاذعة لما تقدمه السينما من تضليل وأراجيف وأباطيل، يبقى الطلب على مشاهدة جديدها عطش لا يتوقف كأنها ينبوع ماء يسري جداوله بكل ما يجرف من شوائب وتبر وتراب، بمتع رخيصة وأخرى غالية ونفيسة، وتسلية وتشويق وتمرير رسائل مدسوسة، هي السينما الحاضرة بتجارتها الرابحة وصناعتها الرائجة وقوتها الناعمة، وإمكانياتها الضخمة، إغراء وإغواء لتهافت الجماهير عليها في كل مكان، اخترقت التابوهات، وتجاوزت كل الحدود، بغزو ثقافي مبرمج من دون سلاح، هدمت حصون مسيجة وأسرت مجتمعات محافظة وتمكنت من نفوس كانت عصية على الاختراق.
السينما الغربية المؤدلجة مدانة وبالأخص هوليوود المبجلة التي لا مثيل منافس لطغيانها الدرامي المستفحش.
هوليوود الموجهة، هوليوود المضللة، هوليوود المسيسة، وكل الاتهامات السلبية ألصقت بها، وكل الأوصاف من قدح وذم قيلت على مدى تاريخها فعمرها من عمر اكتشاف السينما، هي مصنع لأشهر النجوم، ومرتع لأهل الفن واكتشاف المواهب المتوالدة، الجزء الأكبر من روائع أفلام السينما عالميا صنع في هوليوود، هي الساحرة بكل المقاييس، هي إمبراطورية المال والشهرة والإعلام والأحلام والأوهام، وهي بوق إعلامي لسياسات أبناء العم سام العدوانية، ولن تنطلي ألاعيبها بأن أنتجت بضعة أفلام انتقدت أهل السياسة أو سلطت الضوء على خسارة حرب، وكأنها الناصح الأمين لحفنة من المتنفذين، تلك دراما شحيحة مقابل طغيانها الإنتاجي في تجميل الطبقة الحاكمة في العديد من الأفلام، وكيف لها أن تحيد، وهي الشريك القوي، والخادم المطيع لمصالح أمريكا أولا وأخيرا، ويخال للمطلع خلف الكواليس بأن هوليوود تكاد أن تكون فرع تابع لوزارة الدفاع الأمريكية وCIA، هي مجندة طوال الوقت لمهمات أمريكا العدوانية من غزو وحرب وتغيير أنظمة، وهيمنة وسطو مسلح.
كتابات ومقالات في صحف شتى محايدة وأخرى من أهل الدار، تصف حالة التجييش والتحريض والتربص التي تمارسها هوليوود المتحفزة للانقضاض، ففي مقالة تحت عنوان ”هوليوود وصناعة التصورات.. تاريخ من التشويه“ تعرج على الكثير من الحقائق الدامغة، وتستشهد بأحد الشخصيات النافذة وهو ”جوزيف ناي“ وكيل وزارة الدفاع الأمريكية حيث بدأ في تسعينيات القرن الماضي بتطوير مفهوم القدرة على التأثير في الآخرين من خلال الاحتواء والجاذبية لا من خلال الضغط أو الإكراه غير المباشر، فقد توصل إلى أن هناك طرقا أكثر فاعلية يمكن أن تؤتي ثمارها على المدى البعيد حيث يقول: ”جدار برلين احترق بالتلفزيون والأفلام والسينما قبل زمن طويل من سقوطه عام 1989“ ويمضي المقال في تبيان ذلك، ”فالجرافات والمعدات التي أسقطت الجدار لم تكن لتبدأ عملها لولا أنها تبنت تلك الفكرة من خلال ترويج السينما الغربية لهذا الحدث وأهميته في تدعيم الاستقرار والأمن لتلك المنطقة المهمة من العالم“.
خلاصة المقالة تمثل وجهة نظر موضوعية، وحري بالقول، إن كانت أمريكا سعت بكل قوتها الناعمة في توحيد شطري ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية في كيان واحد، بالمقابل فككت دولا أوروبية عديدة وخير مثال جمهوريتي تشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا، الأولى قيل عنها انفصلت بطلاق حضاري وأصبحت دولتان مستقلتان، ”التشيك“ وسلوفاكيا“، والثانية بطلقات نارية مأساوية، عبر حرب شعواء دارت بين إخوة الأمس الذين ضمهم أرض وسماء وطن ”تيتو“ الموحد، سالت دماء في كل ربوع دول البلقان مثل أنهارها أبان عقد التسعينيات وتشظت إلى خمس دول بعد احتراق فسيفساء زاهية الألوان بندب الحظ لكل الطوائف الذين غادروا أحلام وطن كان يقارع الكبار، ويحسب له ألف حساب، بلقنة جديدة متعمدة بسعي محموم منذ زمن عبر إعلام مسعور وأفلام موجه أثناء الحرب الباردة، ماكنة درامية غربية إطاحة بحلف وارسو ”الكتلة الشرقية من القارة الأوروبية“، ومن ضمنهما يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا اللتان كانتا تمثلان حزاما امنيا ضد حلف الاطلسي المتغطرس.
انتهت عظمة جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية الاتحادية، التي سادت ردحا من الزمن بعد أن مزقتها خيوط اللعبة شر ممزق، صفق الغرب ورقص باسم الحرية للشعوب المضطهدة المحكومة بحزب واحد، هكذا بدت الصورة الدعائية المعلنة، لكن أمريكا هي الرابح الأكبر فقد تخلصت من ثقل وعبء هذه الدولة التي مثلت إحدى دول عدم الانحياز في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وكانت قوة مؤثرة على المسرح الدولي، ويحسب لها ألف حساب، فككت وغيبت بشكل قسري، ونجح الغرب في القضاء عليها وكل المنظومة الاشتراكية لأوروبا الشرقية، عبر التهييج القومي والديني من خلال الأدب والفن والدراما ودعاية حقوق الإنسان، وبحلول منتصف التسعينيات من القرن الماضي انتهت هيبة تلك الدول وأصبحت خاضعة تطلب العون والمعونات الاقتصادية كمتسول على موائد الرأسمالية.
يفحص الناقد السينمائي ”J.HOBERMAN - جيه هوبر مان“ عبر كتابه المعنون ب ”ARMY OF PHANTOMS - جيش من الفانتوم“، AMERICAN MOVES AND THE MAKING OF THE COLD WAR جيش الوهمية، الأفلام الأمريكية وصنع الحرب الباردة، حيث يكشف الدور الذي لعبته استوديوهات هوليوود للأفلام في مساعدة المؤسسة العسكرية على إثارة الهستيريا المعادية للشيوعية، لتأجيج الحرب الباردة.
إن الحروب الأمريكية عبر السينما لا تنتهي في كثير من بقاع العالم، بالتزامن مع جنودها المتوثبين للقتال جنبا إلى جنب، جنديا يحمل الكاميرا وممثلا يحمل السلاح سعيا محموما وراء ملاحقة الطرائد، تقودهم وحوش ضارية من خلف وأمام الستار. الغشاوة حجر الزاوية، معصوبة حول الرؤية الحرة، لا يراد لعين المشاهد سوى التيه إلا ما لا نهاية بين التنبؤ المزدوج والنظر للدراما المتواطئة.