تنبؤات درامية أم سينما متواطئة «34»
للأفلام السينمائية جاذبيتها وسحرها، وفي نفس الوقت لها كلفتها الإنتاجية ومصاعبها المادية، وهذا عائد لطبيعة الموضوع وكيفية الاشتغال عليه، والذي هو بالأساس نص مكتوب وسيناريو معدود، سيترجم تمثيلا ينبض بالحياة.
وكل فيلم له ميزانية مقدرة ضمن أبعاد رؤية المخرج وخياله الواسع، وتختلف نوعية فيلم عن فيلم، ومن بلد لآخر، ومن زمن إلى زمن. إجمالا غالبية الأفلام تستهلك صرفا ماديا عاليا، وبالمقابل تذر أموالا ربحية مضاعفة، وقليل ما تخسر، خصوصا في الدول الشهيرة التي لها تقاليد عريقة في صناعة فن السينما وعلى رأسهم هوليوود.
ويأتي في مقدمة الأفلام المكلفة ماديا أضعاف عن الأخرى هي الأفلام الحربية، لا سيما إذا احتوت على تصوير المعارك الحديثة، التي تحتاج إلى عدد وأدوات وعتاد عسكري، ومدافع ثقيلة وطائرات، وسفن، ومصفحات، وسيارات جند، وذخيرة حية.. إلخ.
إن دخول هذا العتاد الضخم ضمن ”البلاتوه المفتوح“ لا يخلو من مصاعب جمة، لأن تصوير المشاهد الحربية تتسم عادة بالمخاطر، ومن هنا يتطلب الأمر مهارة ودقة بحساب الوقت والمساحات وسط تحريك الممثلين بين دوي الانفجارات ولهيب النيران وتصاعد الأدخنة وتناثر الأتربة. ويزداد الأمر تعقيدا لحظة التحام الجيوش المقاتلة، وعند سقوط البعض جراء تحطم سيارة أو القفز من دبابة أو التدحرج من تل أو فوق مرتفع.
إن مشاهد ”الأكشن“ في عمومها وحتى الاستعانة بالدبلير وتحريك المجاميع الضخمة يتطلب قدرة هائلة ولياقة عالية وضبط أعصاب، وبرغم كل هذا يحدث ما يحدث من جرح البعض أو إصابة أحد، وأيضا يبذل الطاقم الفني والتقني جهودا مضنية وشاقة من أجل تصوير مشهد لا يتعدى بضع دقائق خلال مجريات الفيلم.
وثمة مخرجين بارعين في خلق الأجواء الحربية وكأنها حقيقة. من ضمن المخرجين الأفذاذ في هذا الشأن ”كاوبولا“ مخرج فيلم ”القيامة الآن“، هذا الفيلم الذي يعد علامة فارقة من علامات أفلام الحرب الأمريكية.
وعنه ينبري السؤال، أين صور هذا الفيلم؟
في البدء اختيرت غابات كالفورنيا مكانا للتصوير، لكن الفكرة لم ترق للمخرج الذي أصر أن يذهب بفريق العمل إلى جنوب شرق آسيا، وأي بلد سيختار؟ طبعا استحالة أن يتم التصوير في أرض فيتنام وهي مسرح أحداث الفيلم من بدايته لنهايته، بينما آثار العدوان الأمريكي لم تزل شاخصة بعد خروجهم المذل عام 1975، وقبل هذا التاريخ تم إنجاز أفلاما أمريكية عديدة في جنوب فيتنام بالقرب من مدينة ”سايغون - هو تشي منه“ وضمن المساحة المسيطر عليها أمريكيا، فقدمت أفلام دعائية عديدة وقت ضراوة الحرب، وقليل منها جرى تصويرها في غابات أمريكا.
ونظرا لصعوبة التمثيل في بلد شكل حالة من العداء لعقود طويلة لكل ما هو أمريكي، وإن تم مؤخرا بعض الانفراجات في العلاقة بين بعضهما البعض ولكن بحذر.
وأخيرا اتجه طاقم عمل ”القيامة الآن“ بعد اختيار المكان المناسب لتصوير الفيلم وهو أرض الفلبين حيث الطبيعة الخلابة القريبة من أجواء فيتنام، فبدأ التصوير عام 1977.
وقد تعاونت الحكومة الفلبينية على إنجاز تصوير الفيلم وسهلت كل الأجواء مقابل المال، في حين رفضت وزارة الدفاع الأمريكية تمويل المشروع بخلاف عشرات الأفلام عن فيتنام مثل ”صائد الغزلان“ وفيلم ”القبعة الخضراء 1968“ الذي مولته من الألف إلى الياء وضخت فيه امولا باهظة لأنه كان يخدم مصلحتها وقت اشتداد المعارك على أرض الواقع وذلك لرفع معنويات جنودها التي بدأت في التقهقر، وأيضا الرد على المنتقدين والمناهضين للحرب. ربما هذا الرفض عائد لصدمة الخروج وعدم كسب رهان الحرب، ولكن تمت الاستجابة للمخرج كاوبولا بتوفير مجاميع من الجنود الأمريكيين المرابطين في القاعدة العسكرية الأمريكية في مانيلا، من أجل مشهد استعراضي ترفيهي للجنود المكبوتين ضمن محتويات الفيلم.
أما بقية الشخوص والمقاتلين الفيتناميين قام بأدوارهم ممثلين من الفلبين بما فيهم مجاميع الكومبارس. وما أن بدأ فريق العمل بأولى مشاهد التصوير تحدث لهم المفاجأة غير المتوقعة، فقد هبت رياح عاتية على مواقع التصوير فدمرت الديكورات بالكامل والتي تكلف بناؤها ملايين الدولارات، أصبحت كلها مجرد حطام، وكأنها أصيبت بلعنة فيتنام، وقد أعيد بناؤها من جديد مما ضاعف عملية الإنتاج إلى ثلاثة أضعاف، وقد ارتبك طاقم العمل ارتباكا بتوتر بالغ، وكما يقال لا تأتي المصاعب فرادى، فكانت تختفي المروحيات التي استأجرت من قبل الحكومة الفلبينية مرارا وتكرارا للمشاركة في قتال فعلي لمحاربة المتمردين الشيوعيين جنوب البلاد - يا لها من مفارقة غريبة لمهمة الطائرات بين واقع وتمثيل بتقارب النظرة وذات الهدف -، ونادرا ما كان الطيارون متشابهون من بروفة إلى بروفة.
وأيضا إعادة طلاء المروحيات مرتين في اليوم لتغيير ألوانها من الفلبين إلى أمريكا، وكذلك تعرض بطل الفيلم النجم ”مارتن شين“ لنوبة قلبية، وأيضا تعرض الرائد ”هارفي“ إلى طلق ناري في رجله أثناء التصوير.
أمور فاقمت من تضخم ميزانية الفيلم، وقد غطى المخرج تكلفة الزيادات بنفسه والذين أصيب أيضا أثناء عمليات التصوير بنوبة صرع جراء الإرهاق والسهر ليلا بتعديلات على السيناريو، وذات مرة نزلت عليه آفة من جنون نتيجة ثقل العمل وضغط الهواء في الغابة الفلبينية وسط ظلمة أحراشها الكثيفة.
إن صداع الإنتاج هذا وصفه المخرج كوبولا ذو الأربعين عاما، ”بأنه يشبه حرب فيتنام نفسها“!! وقال أيضا ”الفيلم هو عن الجنون، ولكنه أيضا جنون باستمتاع“!
وسط هذا الصخب استغرق تصوير الفيلم 238 يوما تحت ظروف مناخية متقلبة من ضغط الهواء الرطب القادم من المحيط الهادي، وتكاليف مالية متصاعدة وأمور لوجستية مكلفة أثناء عمليات التصوير.
كل هذه المشاق والمصاعب الجمة، تبددت بعد إنجاز الفيلم وتقديم عروضه الأولى في قاعات السينما، حيث استقطب بشكل محموم شعبيا، وحافل نخبويا، إقبال منقطع النظير على شباك التذاكر في كل ولايات أمريكا وخارجها.
ومع حرارة الاستقبال حقق الفيلم إيرادات عالية منذ عروضه الأولى، ونال إعجاب وثناء المهتمين والمختصين في صناعة الفن السينمائي.
وللتأكيد على قيمته الفيلم الدرامية، فاز ”بجائزة كان السينمائي“ لأحسن فيلم سنة 1979 حاصدا السعفة الذهبية وأيضا حصل على جائزتين للأوسكار لأحسن تصوير ومؤثرات صوتية، و”جوائز البافتا“ لأفضل مخرج وأفضل ممثل لبطل الفيلم، وكذلك أفضل إخراج من نقابة المخرجين الأمريكيين ”DGA“ وأفضل سيناريو درامي من نقابة الكتاب الأمريكيين ”WGA“.
وتبرز بعضا من مصداقية فيلم ”القيامة الآن“ عبر سرد الراوي طوال الأحداث وهو صوت بطل الفيلم، النقيب ”بنجامين ويلارد“ دائم التساؤل عن مصيره المبهم ومصير كل من يزج بهم في الحروب العبثية التي لا تعنيهم سوى أنهم مجندون ينفذون أوامر الكبار، ومن يعصيها يحاكم بتهمة خيانة الوطن، بطل الفيلم يسمعنا صوته الداخلي بحالة التيه والحيرة، وتساؤلات لا تنتهي تماما كالذي واجهه بطل رواية ”قلب الظلام“، برحلة عبر النهر وداخل ظلمة النفس البشرية.
إنه فيلم مخبوز بذكاء وحرفية عالية ومحمل برسائل متعددة، بعضها تخدم رؤية من يقف وراءه من حكومات الظل!.
يقول المؤرخ والصحفي الأمريكي فرانك توماسولو ”فيلم القيامة الآن، تمجيد للحرب وتأكيد للتفوق الأمريكي“!.
إذا كان المخرج شبه فيلمه بالجنون وبفيتنام نفسها، نتيجة المصاعب والمتاعب طوال إنجاز الفيلم، وربما هو إدانة للحرب حسب بعض المشاهد لكنه لم ينحاز في إظهار محنة ومعاناة الشعب الفيتنامي بصورة مكثفة أو شبه متوازنة على الأقل للموقفين الأمريكي والفيتنامي، شعب بعيد عن جغرافية أمريكا آلاف الأميال نكل به طوال عشرين عاما باسم محاربة الشيوعية وتقويض انتشارها.
مخرج عبقري فاته أن يسأل ولو مواطنا فيتناميا واحدا ليس له علاقة بالأيديولوجيا الماركسية عما فعلته جنون آلة الحرب الأمريكية.
مخرج فذ لم يظهر حتى أنين المستصرخين ممن شوهتهم قنابل النابالم، فقط صور بانورامية يتم إلقائها عليهم من بعد وهم في حالة فزع وسط ضجيج الطائرات المروحية التي تلقي حممها بشكل هستيري، رؤية خلابة لسرب الطائرات باستعراض القوة والجبروت، مخرج محترف لم يكلف نفسه ولو بلقطة عابرة ”زوم إن“ لبكاء طفلة أو نحيب امرأة أو سقوط رجل عجوز.
فقط مشاهد لأناس بسطاء تتطاير من هول القصف وكأن القيامة الآن.
وكل حكاية الفيلم المنسوجة خيالا من أثر رواية كونراد والمستجلبة من يوميات الصحفي المراسل، بأن عقيدا مارقا ومنشقا ”كورتز“ ”مارتن براندو“ من الجيش الأمريكي كون له لنفسه مملكته الغريبة وسط أعماق الغابة الكمبودية فارا من الأراضي الفيتنامية متخذا مكانا قصيا على مقربة من النهر، قام بقتل مئات من الأبرياء، وله جنود فيتناميون يدينون له بالولاء والطاعة العمياء نتيجة لبطشه وجنونه، ومن هذا المنطلق يقوم بطل الفيلم الشاب ”مارتن شين“ ”بنجامين ويلارد“ النقيب في الجيش الأمريكي بتتبعه مع مجموعة قليلة مختارة من جنود المارينز عبر سفرة نهرية هذيانية ”سريالية“ يواجهون فيها الكثير من المفاجآت والمصاعب الجمة وسط مياه نهر ”ميكونغ“ وعلى ضفافه، والمهمة تقتضي بأن يبحث عنه بأي ثمن كان، وبينما رجال ”ويلارد“ يتساقطون في عرض النهر من ضربات المقاتلين ”الفيتكونغ“ - الذين لم ينصفهم الفيلم بل اعتبرهم اشرار ولكنهم هم المحررين لبلادهم من قبضة الغزاة -، يصر بطل الفيلم على إكمال المشوار المحفوف بالمخاطر تلو المخاطر، وحينما وصل إليه وسط أجواء خرافية أسطورية، وبعد أن تقابلا داخل معبده، وضمتهما جلسة انفرادية وحوار مقتضب يسوده الصمت والإضاءة المعبرة والخوف والترقب والتوجس، وعند لحظة مرتقبة أرداه قتيلا وأهدر دمه ولقطة في الخارج لاتباعه بضرب أعناق الجاموس وفوران الدم تزامنا بلحظة خلاصهم من جنونه وجنون الموت، وكأن بطل الفيلم أدى الأمانة المكلف بها، وحقق ما خطط إليه طوال سير أحداث الفيلم.
بحث مضن ودؤوب فقط للقضاء على شخص خرج عن أوامر القيادة العليا، وخلال ذلك اللهاث أصبحت الحرب الفيتامية الأمريكية مجرد خلفية للحدث نفسه وليس الغاية مناهضة الحرب وإبراز آلام الموطنين العزل، يقول الناقد الفني ”كريس هونيست“:
”كوبولا صانع أفلام أمريكي نموذجي للغاية وضع قدرة الولايات المتحدة على استخدام حرب فيتنام كوكيل لاستكشاف الانقسامات والصرعات الداخلية الخاصة بها، بدلا من التركيز على الآثار المترتبة على الشعب الفيتامي وبلدهم ومنطقتهم“.
إجمالا تظل الدراما الأمريكية الحربية دائما مسيسة مهما استقلت أو دارات واستدارت، هي بريق خاطف بفن وإبهار كالطوفان ولكن كثير من الحقائق مغيبة، ويغض الطرف عمدا عن تلك الفظائع والجرائم الموثقة التي قام بارتكابها الجيش الأمريكي، أحداث موجعة يندى لها جبين الإنسانية لم تزل مسكوتا عنها من قبل كل المخرجين باختلاف أزمنتهم وتوجهاتهم، وكل كتاب السينما الأمريكية وانتماءاتهم على السواء، يغضون الطرف قصدا عن كل ما يسيء لو بشكل طفيف لعظمة وهيبة أمريكا!.
بضعة مراسلين أمريكيين قالوا كلمة الحق فيما رأوا من مآس ولكن بتحفظ. تبقى السينما الأمريكية باذخة في كل شيء إلا صوب المصداقية، فأنها بعيدة عنها كبعد الثرى من الثريا، إنها سينما متواطئة دائما مع المؤسسة العسكرية والأجندات الخفية.