تنبؤات درامية أم سينما متواطئة «21»
للأفلام جاذبيتها ووهجها في عقول ونفوس المشاهدين. وهناك ثمة أفلام قدمت في حقب زمانية متفاوتة، راجت اعلاميا وذاع صيتها في أغلب دور السينما وحملت نقدا وإعجابا وتركت انطباعات واسعة عند الجماهير، وعندما تشبع عرضا، يصرف عنها النظر، لكنها تبقى تراثا سينمائيا ضمن قائمة الأفلام المميزة.
على مدى 124 سنة من صناعة السينما، أُنتجت آلاف مؤلفة من الأفلام في كل مناحي وصنوف الحياة، متنوعة بين الواقع المعاش والماضي القريب والموغل في القدم باستحضار حمولات التاريخ وجوانب من الإرث الإنساني، وأفلام أخرى استلهمت من عوالم الخرافة والحكايا الشعبية والأساطير القديمة مادة دسمة، وأخرى اتجهت لعوالم المستقبل حيث أبرزت ما لا يُرى وما لا يُصدّق ولا يُعقل، وهذه صنفت مجازا أفلام الخيال العلمي.
ومع كل هذا التنوع والثراء تظل هناك بضعة أفلام عالقة في الذاكرة لأنها مبهرة ولامست المشاعر بعمق وأثرت في الأحاسيس بفعلها الفني والإنساني، وبجميع الأحوال مع مرور الوقت ربما تبهت ذكراها وتبقى كطيف جميل، وعلى غير موعد يسترجع بعضا منها بشكل غير مسبوق، ويُقبل المتعطشون لمشاهدتها من جديد بعد أن كانت شبه منسية، ليس بالنظر اليها كتحف فنية وإنما لما حوت من شيء هز كيان الناس، أفلام أُستخرجت من أرشيف السينما ونِفض عنها غبار الزمن، لهفة للمشاهدة، وفضولا وحبا للاستطلاع، بل تزداد نسبة مشاهداتها أكثر من أي وقت مضى، بل أعلى حتى من قت طرحها في الأسواق يوم كانت جديدة
في دور السينما، والأغرب بأنها تقفز للأرقام المتقدمة العشرة او الخمسة متجاوزة كل الأفلام المطروحة الجديدة والمعتبرة، نظرا للطلب المتزايد والمُطّرد على مشاهدتها، والسبب عائد لحدث ما أو لقضية اثيرت مجددا أو واقعة مزلزلة كما هو الحاصل بالأمر المستجد مع تفشي فايروس كروونا المستجد، الذي صار كابوسا حقيقيا أعظم من أفلام الخيال. وباء يفوق حدود التصور، مسيطر على كل العقول والأفئدة، ففي كل ساعة ودقيقة لا حديث للناس سوى كلمة كورونا، هم يومي وهاجس يختلج داخل كل فرد على سطح الكوكب، ولا أظن يوجد إنسان على قيد الحياة طاعن في السن شهد آخر وباء قبل 105 سنة وإن وجد فقد لا يتذكر شيئا بقياس عمره طفلا صغيرا.
وباء كورونا الماحق لم يشهده أحد من مختلف الأجيال الحديثة مثله، فاق التصور فقد أتى من غير حسبان، وأربك العالم وغير من سلوك وحياة الناس، المتأرجحة بين الأمل والرجاء، وسط ضجيج الحذر والهلع والاحتراز والالتزام، ضمن مخاوف تهدأ يوما وتتسارع حرارة أياما وتنخفض مرات وتتصاعد أخرى كالترمومتر، كل يوم إحصاء جديد لأنفس غيبها الوباء توردها الأخبار أرقاما وأرقاما.
كورونا، جائحة توسانامية اجتاحت العالم على حين غرة، فأربكت حكومات وهزت أقوى الدول، وغيرت مفاهيم وأطاحت بآيدلوجيات وتصدعت يقينيات متوارثة، سلوك بشر تذبذب بين الانقباض والانكفاء في الكيان البيتي والإلتمام العائلي، كل سادر في عشه، متكور على نفسه، يرقب ما تؤول إليه الأمور بين أمل مرتقب وفرج آت.
نرقب بعضنا بعضا وتعز علينا المصافحة، فالملامسة عدوى، لا تدري نفس بأية لمسة تصاب، مخافة من الإصابة، من المرض، من الموت!
كتب الروائي الأمريكي ”هوارد فيليبس لا فكرانت“ رائد الأدب الغرائبي ذات مرة قائلا: ”أقدم وأقوى العواطف البشرية هي الخوف، وأقدم وأقوى أنواع الخوف هو الخوف من المجهول“، كورونا المجهول كم أخافنا، وكم أرعبنا؟ ما أصعب أن ننظر من نوافذ البيت ونرى الصمت مطبق على الشوارع خصوصا في ليالي رمضان المباركة العامرة أصلا بالغدو والرواح.
يقول باسكال ”يخاف المرء من صمت الوجود ويفزع من الملل النابع من الوحدة التي تؤدي الى فقدان السيطرة على الذهن والنفس“ ماذا فعلت بنا الجائحة شتت الفكر وحيرت العقول، حياة شُلت ودور العبادة هُجرت، لكن المؤمنون في هذه الليالي تلهج قلوبهم بالدعاء تضرعا ”يانور المستوحشين في الظلم“ وتواسينا الحكمة صبرا وتتوه الأنفس ارجوحة في خضم الألم.
”من المفيد أن يعاني المرء بين حين وآخر آلاما ونكبات، لأن ذلك يذكره بأنه منفي في هذه الارض“ هل نحن منفيون في زمن الجائحة، إنه واقع لا يصدق، سيحكى عنه في أزمنة لاحقة صدقا أم خيالا، وتنصت أجيال لم تولد بعد، أيصدقون ما عانيناه؟ من كان يصدق بأن أفلاما ومنذ زمن تناولت حرب الأوبئة وصورت ما نعانيه تجسيدا مفزعا:
”في بعض الأحيان تنبئنا السينما بما هو أكثر شؤما بأسلوب مباشر وغير مباشر، فالكثير من المشاهدين يستطيعون الربط بين أحداث مروعة حدثت في الواقع وبين فيلم قد يكون محملا برسائل خفية ومعاني مزدوجة تشير بشكل غير صريح إلى توقع حدوث حدث مروع، لذا يجب أن تبقى أعيننا وأذهاننا مفتوحة فقد يقول فيلم ما أكثر مما نعتقد“.
كثير من العيون في الوقت الحاضر بحثت عن أفلام تناولت الأوبة وصورت الرعب الأقرب للحقيقة، راحت تتأمل الدراما الوبائية بمنظار مختلف عما شوهدت من قبل ومعها يتدفق سيل الأسئلة بين الشكوك والتنبؤات.