تنبؤات درامية أم سينما متواطئة «38»
نصغي والإصغاء تأتأة مجبول على الهمس، والقص تباريح هوى البراءة، مفتونين بالحكواتي الصغير، المتسمر في وعينا نباهة، وبإيغال منه في سرد التفاصيل. ها هو محمد الصغير يلقينا في اليم بتأشيراته وكلماته، يغرقنا بتعبيراته المنسوجة واقعا من خيال وخيال من واقع، أنفاسنا تعلو وتهبط بين أمواج التشويق والإثارة، وصخب الانفعال وجديد الأسماء، وفي اللجج نستنشق منه عبق البطولات، يوجهنا إلى حيث انعطافه السردي وتعاطفه المستحق، ولا نقف على الحياد، صدى التشبيهات تشاغب عقولنا الصغيرة بمتعة وضاءة، فنتقاسم الاستيعاب والتخيل، ترجمة لتصويره الواصف دقة وجمالا.
أخبرنا يا أبا حسن عن كيفية اطلاعك على أخبار الحرب وطبيعة تفاعلك مع أجوائها، وكيف استطعت بلورة ما كنت تراه وتسمعه، فكم أدهشتنا كلما التقيناك، نخالك مراسل حرب، ومع منطقك كان يطيب لنا اللقاء، يكسونا الإعجاب وبانجذاب لأحاديثك المتحمسة عن أجواء حرب فيتنام، أعدنا لأجواء القص الأولى ما استطعت سبيلا: ”سمعت عن الحرب ضد فيتنام في سن مبكرة من خلال نشرات الأخبار الإذاعية والتلفزيونية التي تعرض بعض المقتطفات والمشاهد القصيرة لتلك الحرب. الكلمة التي كانت تتكرر في نشرات الأخبار ولا زالت عالقة في ذاكرتي هي كلمة“ قوات الفيت كونغ ”، إذ تشعرني عند سماعها بقوة وشجاعة وصلابة محاربيهم. أعترف أنني لم أكن أفقه شيئاً في شؤون الحروب وشجونها ولا السياسة ودهاتها ومن المؤكد أيضاً أنني لا أعرف موقع فيتنام على خريطة الكرة الأرضية، ولا أعرف لماذا الحرب تدور رحاها هناك، وما شأن القوات الأمريكية بالتدخل العسكري العنيف فيها. كما لا أنكر أن لأخوي الذين يكبرانني سناً دوراً بارزاً في تعريفي بما يجري على شعب فيتنام من جرائم ومآسي وويلات. عرفت السبب الذي تدعيه أمريكا للتدخل في الحرب ولمصلحة من، وما هو حجم الخسائر المادية والبشرية الذي خلفته تلك الحرب المسعورة. لم يرق لأمريكا وهي الدولة العظمى أن ترى حليفتها وصنوها في الإجرام والوحشية والجبروت فرنسا وهي تذل وتقهر ويمرغ انفها في الوحل الفيتنامي وتكبيدها خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، فما كان لها إلا أن تدخل الحرب، بعد أن انكفأت فرنسا مجبرة، وهي متسلحة بسمعتها العسكرية الجبارة وقوتها الضاربة وإمكانياتها الهائلة التي اكتسبتها أبان مشاركتها في الحرب العالمية الثانية، وأهم أسلحتها هو السلاح اللاإنساني الذي تجردت منه. دخلت الحرب وفي اعتقادها أنها نزهة ترفيهية، ولن تأخذ منها سوى بضعة أيام أو أسابيع لإنهائها ومن ثم بسط يدها على مقدرات وخيرات ذلك البلد والتخلص من عدو تعتقد أنه قادر على إفساد مخططاتها الإمبريالية“، سطور تتقارب مع أحاديث الأمس، وتنحو حاضرا بانزياح نحو التحليل والتعليل بالارتكاز على الوقائع التاريخية والمرتبطة بحالة الوعي التراكمي.
ممتاز يا أبا حسن هل تذكر موقف بطل الملاكمة، وأنت واحد من أشاع الخبر بين الأصحاب.
”نعم، الخبر الهام والمدوي الذي وقع كالصاعقة على آذان وقلوب الملايين من المسلمين هو خبر اعتقال بطل الملاكمة العالمي محمد علي كلاي بسبب رفضه للتجنيد الإلزامي، والتورط بسفك دماء الأبرياء في حرب ليس له ولا لبلاده ناقة فيها أو جمل وكان ذلك في عام 1969م“.
كان زمنا مشوشا، والراديو والتلفزيون هما مصدرا الأخبار، واقتناء الجهازين محدودا بين الناس، يكمل الصغير في ذات النقطة ”من سوء حظ الفيتناميين أن الحرب ضدهم وقعت في زمن لم تبزغ فيه شمس الفورة الإعلامية بعد، حيث لا قنوات فضائية تنقل وتغطي الأحداث لحظة بلحظة وبصورة فورية أو شبه فورية، كي يتمكنوا من عرض مظلوميتهم للعالم كله، بسبب المآسي والحمم التي صبت فوق رؤوسهم بدون ذنب اقترفوه“.
حسنا يا أبا حسن حدثنا عن تلك الصور الحربية التي كنا نقلبها بين أيدينا والعيون تتفحصها دهشة وأنت تقص علينا حكاية تلو الحكاية وتزودنا بمعلومات كانت جديدة على تفكيرنا:
”في عام 1971م تقريباً انتشرت صور لتلك الحرب من خلال علكة الأطفال التي كنّا نشتريها بقرش واحد، هذه العلكة حجمها بحجم الكف ومغلفة بغلاف بلاستيكي رقيق ملصوق بها صورة وكنّا نسميها بلهجتنا الدارجة “عكس” وجمعها عكوس. هذه الصورة هي واحدة من عشرات الصور المختلفة التي تم التقاطها في ساحات المعارك الدائرة على الأراضي الفيتنامية. ميزة الصور أنها كانت عالية الدقة وورقها من النوع المصقول والقوي وبلا ألوان“ أسود وأبيض ”. أتذكر من تلك الصور وجوه الفيتناميين الغريبة علينا نوعاً ما، صور تعرض المحاربين وسط أدغال كثيفة بين الشجر تتخللها انهار وسواقي، وجسور من الأشجار تربط ضفاف تلك الأنهار والسواقي ببعضها كي يتمكن المحاربون من التنقل بكل سهولة ويسر، شباب في مقتبل العمر، تقرأ وجوههم الشجاعة والبسالة والشموخ والعزيمة وحب الوطن. ما لفت انتباهي هو أن الكثير من هؤلاء الشباب كانوا يلفون الغتر حول رقابهم، وهذه الغتر لا تشبه غترنا المألوفة والمعروفة. في البداية كنت أعتقد بأنهم يستخدمونها ليغطوا رؤوسهم بها، ولكن أخي قال لي إنهم يستخدمونها لسحب العربات الغارزة في الوحل ومساعدة إخوانهم في المواقف التي تتطلب سحبا أو تسلق“.
وهل بقي شيء في الذاكرة؟
”أذكر من أساليب المقاومة التي ابتكرها الفيتناميون ضد الجيش الغازي أيضا أنهم عمدوا إلى استغلال النحل في مهاجمة الجيش الأمريكي وذلك بتدريبهم على مهاجمة متعاطي السجائر من أفراد ذلك الجيش، مما سبب لهم الأذى الكثير“.
الأساليب يا عزيزي كانت عديدة وكثيرة، والأذى كان مضاعفا كالجحيم، وطرق التمويه عديدة وثمة الغاز مشفرة لم تخطر على بال رجال الكابوي والكمائن كانت فخاخ مستمرة استنزفت قوى الغزاة، وبسالة الفيتناميين أنهكتهم ودمرت معنوياتهم ومرغت أنوفهم في الحضيض، مكبلين بالعار، وغادروا البلاد بذل وهوان، أمام تحدي أبناء الأرض، الذين سطروا ملاحم قتالية وقدموا معزوفات كفاحية ترددت على السنت الثوار في كل مكان، بشعار حماسي دفاعا عن شرف ومكانة الأوطان.
أفلام الحرب الأمريكية قدمت صناعة مبهرة تبجيلا للجنرالات والقادة، وتحفيزا لماكنة المعركة والدفع بالجنود نحو تحقيق النصر، ولكن بعد أن تلاشى هذا الزعم ما فتئت هوليود وإلى اليوم تكافح بتقديم دراما أفلام الوهم وكأن معركة فيتنام لم تزل قائمة الآن!
ألف تحية لك يا أبو حسن على هذا السرد الذكرياتي الجميل والرائع، أحببت أن استأنس بوصفك القديم الذي زينته بمعرفتك الثرية والمتجددة عن حقبة تاريخية هزت دول العالم من أقصاه إلى أقصاه، دارت معارك طاحنة أطاحت بالجبروت الأمريكي من عليائه. استحضرنا أوراقا من ذاكرة الطفولة، وقلبناها مجددا لنرى مقدار حجم فهمنا ووعيك المبكر ومدى استيعابنا في ذلك الوقت بالقياس لأعوادنا الخضراء، وكيف تنامى الفضول وحب الاستطلاع لدينا.
وبالنظر لتلك الصور الفوتوغرافية التي تلقفناها بين أيدينا إقبالا لفك رموزها وعناصرها بأحاديث مشوقة. فقد لعبنا بها في الصغر وتشاطرنا على بعض من يربح منا مزيدا من لعب الورق ”الدق“، تقاسمنا السجال وضحكات الكسب، وفيما بعد فقدنا الورق مع توالي العمر لكننا لم نفقد زادنا المعرفي، والأبعد من ذلك بأن ذاكرة التاريخ لم تفقد ما حل بالشعوب المضطهدة والرافضة للخنوع أو الاستسلام.
ومن المؤسف بجرة قلم على الورق تشتعل حرب وتسيل دماء على أوراق الحياة المعتمة التي لا تنتهي.
هل الحروب مقامرة طفولية يلعبها الكبار، أم هي نادي مفتوح للقمار بين الساسة وأسياد المال؟