تنبؤات درامية أم سينما متواطئة «39»
سينما هوليود لا تمل من تقديم أفلام الحروب، وبالأخص عن حرب فيتنام، فمنذ غزو أمريكا لهذا البلد نهاية الخمسينات الميلادية من القرن المنصرم جندت هوليوود نفسها لتشويه المسلحين الفيتناميين المناوئين لها، فأنتجت أول فيلم عن فيتنام سنة 1958 بعنوان ”الأمريكي الهادئ“ وهو نص رواية بنفس العنوان للروائي البريطاني ”غراهام غرين“ والتي كتبها من خلال معايشته للبلد باعتباره مراسلا حربيا لصحيفيتي ”التايمز والفيجارو“، من سنة 51 إلى 54، وأصدرها عام 1955، فالرواية فيها الكثير من مرئياته وانطباعاته وذاكرة المكان، سطورها تعزف على أنغام توهجات الحب وارتحالات العشق ودمار الحرب وضجيج السياسة.
وبعد مرور ثلاث سنوات على إصدارها تم تصويرها عبر فيلم سينمائي في جنوب فيتنام وهي المنطقة المستولى عليها من قبل القوات الأمريكية مع الفيتناميين الجنوبين المواليين لها.
تدور أحداث الرواية حول ثلاث شخصيات رئيسية تتصارع فيما بينها، الأول مراسل صحافي بريطاني كبير في السن وشاب أمريكي وفتاة فيتنامية بعمر العشرين ربيعا، كل يريد أن يخطب ودها لتكون في حوزته، تتأرجح الفتاة ”فونج“ بين الاثنين، تارة مع العجوز المرهق حيث الجاذبية الأولى، ثم الحب من أول نظرة تجاه الشاب النابض بالحيوية والذي حاول إخراجها من براثن العجوز، وهل تسنى لهم ذلك؟
العيون بصيرة والقلوب وما تهوى والأقدار وما تجري، تدور بين الثلاثة الشك والريبة والظنون وتتصاعد حرارة الحب وتنخفض مثل الترمومتر حسب مقتضى الظرف وأحوال كل واحد منهما بأمل مرتجى رغبة بالزواج، وتحدث المفارقات الغريبة بين الثلاثة. ويشير الزمن إلى أواخر الحقبة الاستعمارية الفرنسية وبدايات التدخل الأمريكي، وتكمن مهمة الشاب ”بايل“ الذي أرسلته واشنطن لرصد أحوال البلد ضمن عملية تجسسية استخباراتية تحت غطاء عامل إغاثة بجلب المعونة والمساعدة للشعب. أتى الشاب وهو معبأ بأفكار يسعى لتحقيقها، وقد قرأ كتبا عن الديمقراطية ويأمل في إعادة تشكيل جنوب شرق آسيا في صورة أمريكية وبالأخص في فيتنام، يتقرب من المسؤولين والناس البسطاء لخلق أجواء من التفاهم والتعايش بين المواطنين، وبسعي حثيث منه لإحياء جماعة دينية تسمى ”الكاوديون - الكاو دائية“ جزء كاثوليكي وجزء بوذي وجزء إقليمي - هي طائفة دينية جديدة أسسها موظف مدني في كوشين في عشرينات القرن العشرين، مزيج من الكونفوشية والبوذية والكاثوليكية الرومانية، ومطعمة بأفكار وإرشادات وفلسفات عدة وشخصيات دينية من الشرق والغرب، هي مزيج عجيب وخلطة غريبة.
وحسب توجه ”بايل“ بنواياه المعلنة يصرح بأن الهدف هو انتشال البلد من الحرب والدمار والتصدي للأحزاب المتناحرة والتخلص من الاستعمار القائم، فلا الشيوعية تصلح للبلد ولا الوجود الفرنسي مقبولا، ومن هنا يسعى الشاب جاهدا بدور المخلص بالإقناع ودفع المال في تأسيس ورعاية هذه الطائفة برؤيتها المسالمة لتسود شعبيا وتأخذ دورها قياديا، لكن الشيء المضمر في النهاية بأن تكون مطية أمريكية.
ومن هنا يجد ”فاولر“ المراسل البريطاني المحنك الساخر بناء على تطور الأحداث العاصفة بالبلد أن لا يقف على الحياد، يعيش صراع الحب والحرب، وتقلبات الأوضاع بين الرومانسية والمؤامرات وشرارت المعارك ومظاهرات الأحزاب المتصارعة، لكن دوافعه للتدخل مشكوك فيها سواء بالنسبة للشرطة أو لنفسه.
ومن هذه الأجواء المحمومة والعاصفة تتأثر الشخصيات الثلاث بمناخ المرحلة الانتقالية المتشابكة والمعقدة، رصد بين نهاية حقبة استعمارية وبداية أخرى.
وتتساءل الرواية ضمنيا عن أسباب التورط الأمريكي المتزايد في فيتنام منذ منتصف الخمسينات أي بعد انحسار الوجود الفرنسي نهائيا مع رحيل آخر جندي فرانكوفوني وقدوم اليانكي.
لقد حظيت الرواية باهتمام كبير بسبب تنبئها المبكر بنتيجة حرب فيتنام بالنسبة للسياسة الأمريكية اللاحقة.
لكن المخرج ”جوزيف مانكيفيتش“ الذي ترجمها إلى فيلم سينمائي، قلب الرواية رأسا على عقب، جاعلا من فاولر الشرير وبايل البطل، وحولها من قصة تحذيرية تنتقد التدخل الأجنبي العسكري إلى الدعوة لمناهضة الشيوعية في فيتنام!.
والرواية في الأساس تدين الحرب بكل أشكالها وتدين التدخل الأمريكي في هذا البلد، إن الفيلم الذي أنتج سنة 1958 ”الأمريكي الهادئ“
لم يكن وفيا للنص ولا أمينا لرؤية الكاتب بل داعما للحرب ومحرضا لمحاربة الفيتناميين الشماليين باختلاق مشاهد مروعة في قلب ميادين سايغون عاصمة فيتنام الجنوبية، بعمل تفجيرات دموية، خلفت ضحايا بشرية كثيرة، وأبرزت لقطات مأساوية لجثث متناثرة لرجال ونساء وأطفال وحالات فزع ونحيب بين المتجمهرين وأنين المصابين نتيجة القنابل المتفجرة، وكل أصابع الاتهام تشير للشيوعيين وعصابات ”الفيتكونج“، فهم وحدهم من يقومون بهذه العمليات الإرهابية المتكررة بين وقت وآخر، فيذهب ضحيتها كثير من السكان المحليين، والأبرياء العابرين في الشوارع والأسواق.
إذن رسالة الفيلم واضحة مفادها بأن وجود القوات الأمريكية أمر شرعي وواجب أخلاقي لردع هؤلاء الشيوعيين الدمويين الذين يسفكون دماء أبناء وطنهم دون رحمة؟، وأيضا أظهر الفيلم أجواء سايغون بصورة عصرية بأنها مدينة تعيش على الطراز الغربي حيث الرفاهية والتمدن والتحضر، بجانب الحرية الشخصية والجسدية، ابتداء من الترفيه في المحلات العامة، إلى الأماكن الحميمية التي تقدم المتع والنزوات العابرة. تتكرر لقاءات أبطال الفيلم بين أروقة الفندق وجنبات المقهى المفتوح على رصيف الشارع، وتمضية لحظات الأنس داخل الكبريهات المغلقة، باستعراض مشاهد الرقص وتمايل الأجساد الغضة في الحانات وحالات السكر والعربدة، ومن هذه المشاهد رسم الفيلم عوالم الرواية، وكلاهما قدم سايغون كأنها مجرد ماخور مفتوح على مصراعيه قد يكون الأمر فيه شيء من ملامسة الواقع، لكن المدينة اختزلت في هذه المظاهر المحددة، يبدو بأن مخرج الفيلم لم يدر بالا بتقديم المدينة من جانبها الثقافي أو الحضاري، ركز على أجواء المتع الرخيصة بالتوازي مع إبراز كره الشماليين للحياة الوادعة الراقية ونبذهم للعيش المتمدن بالحرية المفتوحة على مصراعيها؟!.
وجاء في مقدمة الفيلم على لسان البطل وهو صوت المراسل البريطاني العجوز مع نقلات خلابة لمدينة سايغون مايلي: ”يقولون أنك لو أتيت إلى فيتنام ستفهم الكثير في بضعة دقائق، ولكن البقية يجب أن تعيشها، يقولون أنه مهما كانت ضالتك فسوف تجدها هنا، يقولون أن ثمة شبح في كل منزل، وإنك إن استطعت الوئام معه سيبقى هادئا“، هل كنت هادئا أيها الغازي المحتل حين أتيت، هل كنت رقيقيا ولطيفا، أما ماذا؟
إنك دفعت بالتي هي أوحش للاستحواذ على أرض غيرك بقوة السلاح، من أجل سلب الخيرات، وإخضاع العباد ولي الرقاب، وتسييرهم كالدمى وفق ما تشتهي وترضى.
أنى لك هذا أن يكون، بعد أن خابت كل الظنون، وللتاريخ بأن نص الرواية أنبأك ولم تنته، وعبثت بها لتوافق هواك، وشكلت الأحداث لإرضاء الساسة الزاعمين خوفا بشبح الدينمو، ادعاء كنسته الريح، فدراما الدم أقوى من دراما الوهم، لو كان يعلم المستعمرون.