آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 1:35 ص

تنبؤات درامية أم سينما متواطئة.. «3»

عبد العظيم شلي

ذات مساء من سنة 1987 شاهدت فيلماً عبر تليفزيون البحرين - غاب عن بالي اسمه حالياً - يصور معاناة مواطني ألمانيا الشرقية الاشتراكية المحرومين من الحرية والخبز ومن رؤية أقاربهم في ألمانيا الغربية المرفهين والمدللين برفاهية وبذخ في كنف الرأسمالية التي توفرها لهم أمريكا وبريطانيا والجارة فرنسا.

وما بين الحياتين ونقيضهما يفصلهما سور برلين الذي أنشئ سنة 1961 من قبل النظام الشيوعي الحاكم في ألمانيا الشرقية المدعوم من السوفييت، سور يسمى ”الستار الحديدي“، يقسم المدينة إلى نصفين بطول 167 كيلو مع المناطق المحيطة، وهو بمثابة الحدود الفاصلة بين شطري ألمانيا الغربية والشرقية، تقسيم ظالم نتيجة هزيمة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، تتخلل السور 9 بوابات فولاذية، تفتح في وقت محدد لعبور المحتاجين ضمن شروط معينة وقاسية.

وعند اللقطات الأخيرة للفيلم، ثمة مجاميع من رجال ونساء وأطفال تسارع الخطى للعبور قبل انتهاء وقت الإقفال، نرى أباً وهو بطل الفيلم يمسك بابنه الصغير وهما يهرولان على عجل لكنهما لم يتمكنا من العبور، فقد أغلق الحراس البوابة الفولاذية في وجهيهما بانتهاء الوقت المقرر.

بدأت ملامح الأسى والحزن عليهما مع حلول ظلام الليل، تنتقل الكاميرا في الجهة المقابلة للبوابة المحصنة، وتلوح من أعلى البوابة يد الطفل، وقد رفعه والده على رأسه، ولم نر ذلك الفعل سوى الكف تتحرك يمنة ويسرة، تثبت هذه اللقطة بانتهاء الفيلم مع ظهور أسماء الفنيين والعاملين المساهمين في صناعته مع توالي المؤثرات الموسيقية، إنها رمزية واضحة بأن يد هذا النشء تمثل يد الأجيال القادمة التي ستحطم الأسوار يوماً ما.

وبعد مدة على تسويق ذلك الفيلم، اندفعت مجاميع من الشبان الألمان من كلا الصوبين يحملون مطارق ضخمة يهدمون بمعاول العزم والإصرار والتحدي ذلك الجدار المصطنع في مشهد ليلي هستيري لا يصدق، وسط ذهول الساسة في كل مكان ودهشة العالم، فقد تخلى الجنود المؤتمنون على حماية السور الذين كانوا يطلقون النار لسنين مضت على كل من تسول له نفسه الاقتحام أو تسلق الجدار، حراس تركوا ثكناتهم للثوار وولوا الأدبار بعد تدفق الأمواج البشرية، وسط صخب الصيحات المدوية، معاول إرادة الشعب محت الحدود وهدمت أسوار الخوف، أجواء احتفالية تاريخية لأمة عظيمة مزقتها ويلات الحروب وتقاسمها الأغراب تحت بنود الوصايا والنفوذ والهيمنة، وها هي تعود وتنهض من جديد عام 1989 وتلتحم أرضاً وشعباً تحت راية ألمانيا الموحدة.

هذا ما كان يرمي إليه ذاك الفيلم من شحن النفوس وتحفيز يد الشبيبة بتحطيم الجدار الذي كان يسمى ”جدار العار“، تداعت أركان بنيانه حجراً على حجر، وأصبح أثراً بعد عين، ومعه سقط حلف وارسو وانتهت الحرب الباردة بين القطبين العدوين اللدودين، وهو سعي غربي اشتغلوا على هدمه سنين طوال بكل الوسائل المخفية والمعلنة، بما فيها تجنيد الفن السابع في كثير من الأفلام السينمائية، حدث غير مجرى تاريخ أوروبا الحديثة والعالم أيضاً، أمر تحقق لحلف الناتو بنصر مؤزر، بغض النظر عن عدالة هدم الجدار وأحقية توحيد ألمانيا.

وللتاريخ كانت ألمانيا الشرقية مناصرة للقضايا العربية وداعمة للقضية الفلسطينية، وبعد الوحدة تغيرت البوصلة.

لقد هدم جدار برلين معنوياً قبل هدمه مادياً، بأثر بالغ لمن يقف وراء السينما المسيسة، أو المتنبئة التي تسبق وقوع الحدث بزمن لتلعب لعبتها في تجييش العواطف وتهيئة النفوس لما هو قادم.