تنبؤات درامية أم سينما متواطئة.. «10»
مما لا شك فيه أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر هي التي دفعت أمريكا لشن حربها على أفغانستان والعراق واحتلالهما بحجة تجفيف منابع الإرهاب والقضاء عليه، قد تكون هذه مسلمة لا خلاف حولها، لكن الأمر أبعد من ذلك، فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء بقيادة أمريكا، وهي لم تكف عن شن الحروب تلو الحروب سواء مباشرة أو بالوكالة.
بالنسبة للعراق كانت شهية الغزو مفتوحة منذ خمسينيات القرن الماضي، فحين أطاح الضباط الأحرار بالملكية في العراق واستيلائهم على السلطة بما يعرف بثورة تموز 1958، وقيام الجمهورية ذات التوجه اليساري بزعامة عبد الكريم قاسم، عندها جن جنون أولاد العم سام، فقد سربت وثيقة أعلن فيها الرئيس الأمريكي أيزنهاور سنة 1952 ”ضرورة تطويق الاتحاد السوفيتي بعدد من الدول الحليفة والحفاظ على منابع النفط ولو استلزم احتلالها أو إحراقها“!!
فكيف يفقدون العراق بين ليلة وضحاها ويخرج عن بيت الطاعة، وينفرط عقد حلف سمي باسم عاصمته ”حلف بغداد“، حينها وضعت استراتيجية كاملة لغزوه لإرجاع الملكية، خطة كانت جاهزة للتنفيذ، تم إبطاؤها لمعاينة المستجد ومراقبة الوضع عن كثب، وسار المسار بتريث مصطنع من احفاد قتلة الهنود الحمر، لكن نزعة الكاوبوي اقتضت تحريك حبائل خيولها السوداء في الخفاء، فاتت أكلها بعد أربع سنوات، فقد تمت الإطاحة بقاسم فيما يعرف ب ”8 شباط الأسود - 1963“.
وكان لأمريكا ما أرادت، واستلم الأخوان عارف السلطة تناوباً، ثم أتى البعث سنة 1968 وهو الأطول عمراً والأشد تهوراً وشراسة، وهو من جر الويلات والمصائب لأرض السواد بسياساته الرعناء.
وبين شد وجذب مر زمن وتغيرت وجوه الساسة في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن مفهوم الغزو لم يتغير، ظل حاضراً في عقلية رعاة البقر، والرهان على اجتياحه كان فقط مؤجلاً، ومع بداية الألفية الثالثة طبق فعلياً وأصبح العراق بين مخالب الصقور كما الساموراي المرتهن إلا أحفاد بناة سور الصين العظيم، فالحرب معهم الآن مختلفة، حرب غير تقليدية.
وثمة أفلام هوليوودية مهدت الأرضية لشن أمريكا حروبها شرقاً وغرباً، عقيدة متلازمة باسم الاجتياح المقدس بتنفيذ أوامر الرب، سواء نحو العراق أو غيره، أجندات الحرب الباردة وما بعدها جاهزة، سيناريوهات معدة سلفاً لأكثر من بقعة ومنطقة، صقور منقضة لالتهام الفرائس حرباً، أو ملاحقة الطرائد بانقلاب العسكر، ابتداءً من دول البحر الكاريبي وتقليم أشواك الحديقة الخلفية ”أمريكا اللاتينية“، وتسييج المارقين في نواحي أدغال أفريقيا، ومروراً بترويض النمور الآسيوية، وليس اكتفاءً بتطويق الشرق الأوسط، بل وضع القارة العجوز برمتها في الجيب وضربها فوق الحزام إن عطست في وجه ولي نعمتها الذي حررها من قبضة النازية والفاشية، وأغدق عليها مشروع مارشال.
بلدان وخرائط دول وقارات محاصرة بين القبضة والاحتواء.
وفي الحرب وما قبلها كان الفن السينمائي حاضراً لتمرير المخطط الخفي والمعلن، غطرسة جاهزة باسم الفن «لطالما كانت السينما الأمريكية السباقة في أفلمة الحدث السياسي»، وبجردة حساب لأفلام هوليوود الحربية يذهل المرء من الماكينة الإنتاجية المسوقة دوماً للحروب، وبإيمان مطلق تحت الصيحات المحفزة لرؤساء أمريكا ومن ضمنهم الرئيس جونسون حين قال: ”لو لم نكن موجودين فأية أمة في العالم ستدافع عن الحرية“، ويتواصل القول بالفعل بمناداة جيمي كارتر ”إن للولايات المتحدة حقاً تاريخياً في الوجود، حيث صممت أمريكا لخدمة الإنسانية“!
باسم الإنسانية هلك بشر وتقطعت أواصر شعوب وأمم، يقولون: ”المنتصر يكتب التاريخ على هواه“، نعم لكنه لا يستكين ولا يترك الآخرين عند حدود إنجاز مهمته الإنسانية المزعومة، فهو لا يرضى أن يترك أحداً يقف له نداً، يطبق الخناق ويكشر عن أنيابه طالما القوة في يديه، ودوماً القوي يفرض أجندته في كل زمان ومكان.
تعود بي الذكرى قبل 34 عاماً مع رجل عراقي عجوز اسمه ”أبو لهب“، كان يبيع الشاي على مقربة من باب السيدة زينب في سوريا، كنا مع شلة الأصحاب نتسامر معه على وقع ارتشاف استكانات الشاي، شخص مثقف يهذي شعراً وأفكاراً صادمة في الدين والحياة برغم أسباله البالية، ذات ليلة انفتح الكلام على مصراعيه ومحور الحديث بين مفهوم الحق والباطل في الحياة، كنا بإصرارنا نقول له: ”يا أبا لهب الحق ينتصر على الباطل ولو بعد حين“، رد علينا بانفعال شديد وبتوبيخ غليظ: ”يا با شنهو حق شنهو باطل، لا يوجد في الحياة حق وباطل، يوجد قوة وضعف، شنهو أمريكا غازية العالم ومتحكمة بيه بالحق لو بالباطل، كله بالقوة ولا غير القوة؟!“.
لست أدري يا أبا لهب، حينما اجتاحت أمريكا العراق واستباحت أراضيه واحتلته ونكلت بشعبه، كنت حياً أم ميتاً؟ فكلمتك لم تزل حية ترن بأذني ”الحق يا ابني اغتيل منذ زمن، القوة هي من تحكم العالم“!