فائدة لغوية «32»: اللفظ والمعنى
يذكر عبد القاهر الجرجاني في ”دلائل الإعجاز في علم المعاني“ [1] رواية عن ابن الأنباريِّ [2] أَنه قال: ركبَ الكنْديُّ المتفلسِف [3] إلى أبي العبّاس [4] وقال له: ”إني لأَجِدُ في كلامِ العَرب حَشْوًا!“
فقال له أبو العباس: ”في أي وضعٍ وجَدْتَ ذلك؟“
فقال الكندي: ”أَجدُ العربَ يقولون: عبدُ الله قائمٌ“، ثم يقولون: ”إنَّ عبدَ الله قائمٌ“، ثم يقولونَ: ”إنَّ عبدَ اللهَ لقائمٌ، فالألفاظُ متكررةٌ والمعنى واحدٌ.“
فقال أبو العباس: ”بل المعاني مختلفةٌ لاختلافِ الألفاظِ، فقولُهم: عبدُ الله قائمٌ إخبار عن قيامه، وقولهم: إنَّ عبدَ الله قائمٌ جوابٌ عن سؤالِ سائلٍ، وقولهم: إنَّ عبدَ اللهِ لقائمٌ جوابٌ عن إنكارِ مُنْكِرٍ قيامَهُ، فقد تَكرَرَّت الألفاظُ لتكرُّرِ المعاني.“
قال «الأنباري»: ”فما أَحَارَ المتفلسِفُ جوابًا.“
الجدير بالذكر أن علاقة اللفظ والمعنى، هي آلية لتحقيق هدف الجرجاني من كتابه ”دلائل الإعجاز“، وهو إظهار القول في ”النظم“، لتحقيق مقولة أن القرآن الكريم معجز بنظمه. فالبلاغة التي وضعها وأصًّل مسائلها، وضبط قواعدها قائمة على دراسة التلاؤم والتوافق بين الألفاظ والمعاني. وقد جاء ”مفهوم النظم“ عنده في نظامين:
- توخي معاني النحو
- ترتيب الألفاظ في الكلام على حسب ترتيب المعاني في النفس.
وهو ما نص عليه مجملًا في قوله: النظم: هو تعليقُ الكلم بعضِها ببعضٍ، وجَعْلُ بعْضِها بسَببٍ من بعض.
فتعريف النظم على أنه ترتيب الألفاظ في الكلام على حسب ترتيب المعاني في النفس يجعل المعنى عند الجرجاني أسبق في الوجود من الألفاظ لذى المتكلم «أو الكاتب» والعكس لذى المخاطب «السامع أو القاريء».
فمن جهة المتكلم: المعنى لديه سابق للألفاظ؛ فالمعنى يقرع القلب ويسكن فيه ومن ثم يترجم اللسان ما يجيش به الداخل، ولذلك لا بد أن تأتي الألفاظ مرتبة ومنظمة على حسب ترتيب المعاني في النفس.
ومن جهة المخاطب: اللفظ يقرع آذانه «أو عينيه» أولًا، ويصل إليه قبل وصول المعنى المراد، وعلى حسب فقه المخاطب للكلام يكون مقدار فهمه للمعنى.