فائدة لغوية «10»: «أطيش من فراشة - 1»
أطيش: أشد طيشًا، والطَّيْش، من طاش يطيش فهو طائش، هو خفَّة العقل، وفي الصحاح: النَّزَقُ والخفَّة، وطاش الرجلُ بعد رَزانتِهِ... طَيْشُ العقل ذهابُه حتى يجهل صاحبُه ما يُحاوِل. والأطيش: طائر «لسان العرب» [1] . والطَّيَّاشُ: المتردِّد لا يقصد وجهًا، والأرعن المتسرِّع «المعجم الوسيط». ويقول الشاعر ابن الرومي:
يدعي العقل والزكانة والعل....مَ ويُضحي من أطيش الطياش
«أطيش من فراشة» هو مثلٌ يضرب للمندفع المتهوِّر، لا يتحرّى عواقب الأمور «معجم المعاني الجامع»، وينقله أبو الفضل الميداني في «معجم مجمع الأمثال»، عن كتاب «الحيوان» للجاحظ، ويقول: «لأنّها تلقي نفسها في النار» «ص: 414» [2] . وقيل يُضرب الطيشُ بالفراشةِ «لأنّها لا تزال واقعة وطائرة لا تستقرّ في مكان» «أبو القاسم الزمخشري، المستقصى في أمثال العرب، رقم: 978». وحسب الميداني، الأصل في المثل هو «أطيش من الذباب» لقول الشاعر:
”ولأنت أطيش حين تغدو سادرًا... رعش الجنان من القدوح الأقرح“.
”القدوح الأقرح“ هو الذباب؛ إذا سقط حك ذراعًا بذراع كأنه يقدح، والأقرح: من القرحة، وكل ذباب وفي وجهه قرحة. والفَرَاش، يعد من ضمن أصناف الذباب «الثعالبي، ثمار القلوب، 1/586».
الفراشة كانت عند العرب ليس فقط رمزًا للطيش، كما في المثل المذكور، بل أيضًا رمزًا للجهل، فيقال في وصف جهل الفراش وخفته: «فراش النار، جهل الفراشة، خفة الفراشة، حلم الفراشة» «الثعالبي، ثمار القلوب 1/505-505». ووصفها ب «حلم الفراشة»، فهو تعريض لها لا امتداح لحلمها: إذ يقال أيضًا: «حلم عصفور» «ثمار القلوب، 1/506»، قال الشاعر:
”سفاهة سنّور وحلم فراشة وإنك من كلب المهارش أجهل“
وقال حسان بن ثابت:
”لا بأس بالقوم من طول ومن عظم... جسم البغال وأحلام العصافير“
والمقصود بأحلام العصافير صغر العقول وقلة الفهم والإدراك.
ربط الفراشة بالنار ربط لافت وفيه تشهير بها لأنه يقال في موضع الذم والهجاء بالطيش والجهل والتهور: ما هم إلا «فراش نار وذباب طمع» العقد الفريد: 1/320، حسب الترقيم الآلي على موقع المكتبة الشاملة». وقال الشاعر:
”كأن بني طهية رهط سلمى....فراش حول نار مصطلينا“
”يطفن بحرها ويقعن فيها....ولا يدرين ماذا يتقينا“
ويقول الثعالبي: «والفراش وأصناف الذباب أجهل خلق الله، لأنها تغشى النار من ذوات أنفسها حتى تحترق» «ثمار القلوب، 1/505». والفَرَاش، كما ذكرنا أعلاه، يعد من ضمن أصناف الذباب «نفس المصدر، 1/586».
حسب هذه الأوصاف، الموقف العربي القديم عن الفراشة يتضادّ مع الفكرة الرومانسية المعاصرة عنها، التي يتغنى بها الشعراء ويطير بها الأدباء ويُرقِّش بها الفنانون، بمعنى أن الفراشة لم تكن عند العرب ذاك الكائن «السَّمَاوي» الجميل المُلْهِم. وهنا سؤالان جديران بالبحث والإجابة: هل كانت صورة الفراشة عند غيرنا من الأمم تختلف عما كانت عند أسلافنا؟ ومتى وكيف تَمَّ هذا المنعطف الثقافي «للرومانسية» عند العرب؟ تأتي الإجابة عن هذين السؤالين في قادم الأيام.
يتبع...