آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 8:43 ص

السلوك اللغوي..مقاربة مزدوجة «3»

الدكتور أحمد فتح الله *

في مقالين سابقين عن السلوك اللغوي بشقيه الداخلي والخارجي [1]  توقفنا في الجزء الأولى عند السؤال عن حال اللغة عند المصابين بالصَّمَم والبَكَم، في ضوء المقاربة النفس - لغوية. وحيث أن الجزء الثاني للمقال توسع في مفهوم ”الكفاءة التواصلية“ ولم يتطرق إلى السؤال المذكور، نحاول أن نجيب عليه في هذا المقال المتمم [2] .

ذكرنا في تعريفنا للسلوك الباطني للغة، أن اللغة الداخلية، أو ما يعرف ب ”الكلام الباطن“ «Inner Speech» هي اللغة التي تحمل إلينا الإحساسات الداخلية والإشارات والتوجيهات الواردة من النفس، أو التي تدور فيها. الكلام قد يكون حوارًا:

- ظاهرًا علنيَّا، أو حديث الشخص لنفسه بصوت مسموع، أو كحديث الشخص لآخر.

- أو باطنيًّا خفيًّا يجرى في تيار الشعور النفسي ويدركه الفرد حينما يقف وقفة عقلية ليتأمله، كما يحدث فيما يعرف ”حديث النفس“ أو ”عملية الاستبطان“ «Introspection»، الذي قد يجري بإرادة الفرد أو بغير إرادته.

قد يكون الحوار الباطني بصور عقلية فيصبح تيارًا متصلًا من صور بصرية أو سمعية أو غيرها من الصور الحسية، وقد تكون الصور حركية ديناميكية، وقد تكون مزيجًا من ذلك كله. فالإشارة والإيماءة مظهر من مظاهر الصور الحسية الحركية الباطنة، والكلام المسموع مظهر لكلامٍ خفىٍّ باطني، واختلاف المتكلمين في حوارهم الظاهر والباطن نتيجة اختلاف أنماط شخصياتهم.

السمع واللغة

حاسة السمع هي التي تجعل الإنسان قادرًا على تعلم اللغة وفهم بيئته. تكون حاسة السمع وظيفية قبل الولادة غير أنها تضعف بعد الولادة مباشرة؛ لأن القناة السمعية تمتلئ بالسوائل ولكنها تصبح عادية بعد عدة أيام من الولادة؛ إذ يلاحظ أن المواليد الجدد يوجهون رؤوسهم تجاه مصدر الصوت ولكنهم لا يستطيعون تحديد مصدره بدقة، وبعد الولادة بفترة قصيرة يستطيع الطفل تمييز الأصوات المختلفة وبعد أن يبلغ الطفل الشهر الرابع من عمره تعمل الأصوات الجديدة على استثارته فيقوم بحركات بحثية عن الصوت مثل إدارة الرأس أو إدارة كامل الجسم تجاه مصدر الصوت.

أما في الشهر السادس فيستجيب الطفل للصوت بردود الفعل نفسها الموجودة لدى الراشدين ومع نهاية السنة الأولى من عمره تتطور مهارات الاستماع وتظهر لدى الطفل القدرة على الانتباه الانتقائي وهي تعرف باسم إدراك ”الشكل - الخلفية“، ويعني الانتباه الى الإثارة السمعية الأساسية «الشكل» وعدم التركيز على المثيرات السمعية غير المهمة «الخلفية»، أي أن الطفل يصبح قادرًا على تمييز الصوت الذي يخصه من بين جميع الأصوات، ويكمن دور الأسرة هنا، خاصة الأم، عند ملاحظتها عدم استجابة طفلها للأصوات من حوله أو تأخره في القدرة على الانتباه الانتقائي بأخذ الطفل الى الطبيب الاختصاصي «أنف وأذن وحنجرة» وذلك لتفادي تفاقم المشكلة وحتى لا تتطور وتصبح خللا.

أعراض ضعف السمع

ممكن تصنيف أعراض ضعف السمع إلى نوعين: جسماني «فسيولوجي» سلوك - لغوي»

الأعراض الفسيولوجية:

- خروج صديد من الأذن.

- شكوى من ألم في إحدى الأذنين يكون على شكل وخز أو غيره.

- احتقان الحلق والرشح بشكل متكرر.

- التهاب اللوز المتكرر.

- سماع طنين في الأذن.

الأعراض السلوكية - اللغوية:

- أصوات داخل الرأس.

- يتكلم بصوت عالٍ جدا ً أو منخفض جدا ً.

- اصدار ألفاظ خاطئة بكثرة.

- إمالة الرأس نحو مصدر الصوت، ووضع اليد على طرف الأذن وكأنه يجمع الصوت.

- يطلب من الآخرين رفع أصواتهم بشكل عالي وإعادة أحاديثهم.

- الحرص على الاقتراب من مصدر الصوت.

- يطلب من الآخرين استيضاح ما يتحدثون به.

- يرتبك ويتوتر عندما يتحدث مع الآخرين.

- يعطي أجوبة لا علاقة لها بالأسئلة التي توجه إليه.

- لا يتبع التعليمات اللفظية. [3] 

- يبدو عليه العناد والانسحاب.

ضعف السمع قد يتحول إلى إعاقة

الإعاقة السمعية هي انحراف في السمع يحد من القدرة على التواصل السمعي - اللفظي، وشدة الإعاقة السمعية هي نتاج لشدة الضعف في السمع وتفاعله مع عوامل أخرى، على سبيل المثال، العمر عند فقدان السمع، والعمر عند اكتشاف فقدان السمع ومعالجته، فضلًا عن المدة الزمنية التي استغرقها حدوث الفقدان السمعي، ونوع الاضطراب الذي أدى إلى فقدان السمع.

ويشمل مصطلح الإعاقة السمعية كلًا من الصمم وضعف السمع؛ فالصمم يعني أن حاسة السمع غير وظيفية لأغراض الحياة اليومية الأمر الذي يحول دون القدرة على استخدام حاسة السمع لفهم الكلام واكتساب اللغة، أما الضعف السمعي فيعني أن حاسة السمع لم تفقد وظائفها بالكامل، فعلى الرغم من أنها ضعيفة إلا أنها وظيفية بمعنى أنها قناة يعتمد عليها لتطور اللغة.

يمكن اعتبار الأطفال المصابين بالصمم أنهم يعيشون في «عزلة» عن اللغة، بمعنى وجود حاجز يحول بينهم وبين الأصوات اللغوية ورموزها. ترجع عدم قدرة الطفل الأصم الأبكم على الكلام إلى إصابته بعدم السمع أو ضعفه خلقةً منذ الولادة أو قبل أن يصل إلى السابعة من العمر [4] . إنَّ إصابة الجهاز السمعي أو خلل في بعض مناطق المخ المؤدي إلى الصمم، لا تعني نقصًا في القدرة العقلية عند الأصم، لذا يمكن تنمية لغته الداخلية، وعلى الوالدين والمربين المبادرة بتعليم هذه اللغة للطفل المصاب عندما يبلغ عامين ونصف من العمر، بالتركيز على السماع إذا لم يكن الصمم كاملًا، وإلا، بالقراءة بتحريك الشفاه وتحسس اهتزازات الحنجرة، والقصص المصورة، وغير ذلك مما يوصي بها المعالج اللغوي «Speech Therapist» المختص بأمراض الكلام والتأخر اللغوي. ويحتاج ذلك إلى صبر وتروِّي من الشخص المعالج ومن الوالدين، خاصة الأم، والقريبين من الطفل.

أن فقد اللغة الطبيعية في سن مبكرة قد يؤثر على النمو العقلي، حيث أن الاختبارات غير اللفظية في العيادات ومراكز الاختبارات النفسية تشير إلى تأخر أو تباطؤ في النمو العقلي [5] . هذه النتائج يأخذها علماء النفس اللغوي، خاصة المهتمين بالجانب الإدراكي منه، بوصفها أدلة تؤكد أهمية اللغة ودورها المؤثر في تنمية النشاط العقلي. وبغض النظر عن تفاصيل جدلية اللغة والفكر، إن التفكير، وهو نشاط العقل البشري، ليس فقط لا ينمو إلا عن طريق اللغة، بل لا يحدث إلا باللغة، فاللغة والفكر في علاقتهما كوجهي عملة «معدنية أو ورقية»، لا قيمة لها إلا بهما ولا وجود لأحدهما إلا بوجود الآخر معه [6] .

ورغم أن ”لغة الإشارة“ «Sign Language» بديل غير مثالي عن اللغة «اللفظية»، هي ضرورية لفك العزلة عن المصابين بعدم السمع أو ثقله ومساعدتهم للتواصل مع المجتمع والبيئة المحيطة به. ولتحقيق ذلك ينبغي تعليمهم طرق التواصل وهي:

- التواصل الشفهي: وذلك بالتركيز على التلميحات والإيماءات الناجمة عن حركة الشفاه. هذا يشمل قراءة الكلام: وهو التركيز على الشفاه لفهم الكلام المنطوق ويعتمد ذلك على البصر. وقد يصنف البعض هذا المهارة طريقة بذاتها منفردة عن التواصل الشفهي.

- التدريب السمعي: تعليم الطفل توظيف ما يمتلكه من قدرة سمعية متبقية.

- التواصل اليدوي: نظام تواصلي يعتمد على استخدام رموز يدوية لإيصال المعلومات للآخرين ويشمل استخدام لغة الإشارة والتهجئة بالأصابع.

- التواصل الكلي: ويتضمن استخدام أنواع متنوعة من طرق التواصل لمساعدة الأصم على التعبير واكتساب اللغة.

إن لغة الإشارة ”لغة“، بالمعنى الاصطلاحي العام، وهي ليست قاصرة فقط على حركة اليدين، فهي تشمل، كاللغة اللفظية، تعابير الوجه، وحركة الشفاه والتعابير بحركة الجسم. في هذه اللغة تعبر كل حركة عن حرف معين فيستطيع الشخص تكوين كلمات وجمل متعددة. وكأي لغة طبيعية، لكل بلد لغة إشارة خاصة به وقد تتواجد أكثر من لغة إشارة في نفس البلد حسب ثقافة المجتمع ووعيه.

لغة الإشارة عالمية، حيث أننا نجد التواصل بين الصم من بلدان مختلفة أسهل من التواصل بين الذين يتحدثون اللغات المنطوقة. لذا، تشجع العديد من الدول غير المصابين بفقد السمع على تعلم لغة الإشارة لأنها تعتبر جزء من التنوع اللغوي والثقافي الموجود في المجتمعات وضرورة ملحة باعتبار أن الشرط الأساسي لنمو المجتمعات هو التواصل البنَّاء. وليتنا نتعلمها كلغة ثانية أو أجنبية لنتواصل مع منهم بيننا يحتاجون فقط تواصل بلغة ما، تخرجهم إلى طبيعة الحياة. فهذه اللغة لها وظائف عديدة وتساعد على تحقيق كثيرٍ من الأمور، منها:

- التواصل وتبادل المعارف والمشاعر.

- التعبير عن الحاجات الخاصة المختلفة.

- النمو الذهني والفكري.

- الحد من الضغوط الداخلية والنفسية.

- التخلص من الإصابة بالخوف والاكتئاب والإحباط.

- تطور العلاقات الاجتماعية والمعرفية والثقافية للأفراد.

وفي الختام، وللعودة للجواب عن السؤال المطروح عن السلوك اللغوي عند ذوي الحاجات، مثل الصَّمَم والبَكَم، يمكن أن يُختصر كالتالي: يستخدم فاقدوا السمع كل الحواس كالشم واللمس والنظر من أجل تركيب صور ذهنية أثناء التفكير ويستخدمون أيضًا الإشارات من أجل ابتكار لغتهم الخاصة بهم بالإضافة إلى الرموز واللوحات والأشكال الهندسية وإشارات المرور وواجهات المحلات، أي أنهم يكثفون الصور البصرية من أجل تجسيد صورًا ذهنية يستطيعون من خلالها التفكير، بالتالي فإن طريقة تفكيرهم تستخدم ”التكثيف البصري“ مما يساعد في خلق الحوار الباطني «اللغة الداخلية» كما وصف في مقدمة الحديث أعلاه، إضافة إلى السلوك اللغوي المعتمد على الصورة والرمزية البصرية؛ ”لغة الجسد“، التي تأخذ اليدان فيها مكان اللسان.

[1]  ”السلوك اللغوي..مقاربة لغوية مزدوجة «1»“ على الرابط:

https://juhaina.in/?act=artc&id=68348

و”السلوك اللغوي..مقاربة لغوية مزدوجة «2»“ على الرابط:

https://juhaina.in/?act=artc&id=68799

[2]  تأخر نشر هذا المقال الذي كتب مباشرة بعد الجزء الثاني، ولكن تاه مع كثرة المشاغل والظروف ومقالات "دخلت على الخط"، كما يقال، لمتابعة بعض الأحداث.

[3]  أداؤه في الاختبارات اللفظية أقل بكثير من أدائه في الاختبارات غير اللفظية.

[4]  يحدث ضعف السمع بسبب أو أكثر من سبب من ثلاث مجموعات من العوامل: عوامل قبل الولادة «الأسباب الوراثية، التشوهات الخلقية، نقص اليود، عدم توافق العامل الرايزيسي «RH factor» بين الأبوين، وهو بروتين في الدم»، وعوامل أثناء الولادة، وعوامل بعد الولادة «أمراض الطفولة، وعوامل البيئية». والجدير بالذكر إن ما اكتسبه الطفل من لغة قبل السابعة قابل للنسيان التام إذا فقد سمعه في السابعة من عمره.

[5]  الاختبارات غير اللفظية تشمل الرسوم والصور وتركيب أشياء معينة، كما هو متبع في علاج بعض الحالات المرضية، والكشف عن القوى العقلية في العيادات ومراكز الاختبارات النفسية.

[6]  هذا توجيه فلسفي لجدلية في عمقها قد تشير إلى مأزق في الفلسفة المعرفية العامة وفي اللغويات، خاصة علميّ اللغة النفسي «Psycholinguistics» والإدراكي «Cognitive Linguistics». ويبدو أن تطورات نظريات علم اللغة الإدراكي وأدواته في أبحاث المخ واللغة قد تصل إلى نهاية لهذه الجدلية قريبًا ومن ثم مخرجًا من هذا المأزق.
تاروت - القطيف