السلوك اللغوي..مقاربة مزدوجة «2»
السلوك اللغوي والكفاءة التواصلية
كما جاء في المقال السابق «السلوك اللغوي مقاربة مزدودجة «1»»، عرّف اللسانيون مصطلح ”الكفاءة“ «competence» على أنها مجموع المعارف الكامنة لدى الفرد المتكلّم، والتي تسمح له بإنتاج الجمل الصحيحة وفهمها. وفي مقابل مصطلح الكفاءة، وضعوا مصطلح ”الأداء“، ويراد به الاستعمال الحقيقي للغة في وضعيات ملموسة «performance» فالكفاءة معرفة ذهنية «ملكة أو قدرة كامنة»، تمكّن الفرد من إنتاج ”الكلام“، أمّا الأداء فهو تفعيل أو تجسيد هذه المعرفة، وهو الأداة لتحقق من وجودها ومن جودتها. بعبارة أخرى، الكفاءة تتحقق من خلال إخراجها من ”التجريد“ و”الكمون“ إلى الفعل والتحقّق.
هذه الثنائية التي طورها تشومسكي في نظريته التوليدية عن اللغة ظلت مقبولة حتى رأى بعض اللغويين أنها تمثل قصورًا في تصنيف السلوك اللغوي، حيث أنه يهمل البعد الاجتماعي للغة. فظهر مصطلح ”الكفاءة التواصلية“ «Communicative Competence»، على يد العالم اللغوي الأنثربولوجي ديل هايمز Dell Hymes ٬ «1972م، 1984م» حين رأى أن الكفاءة بالمفهوم التشومسكي لا تُعنى بالعناصر التي تستعمل في عملية التفاوض «interaction» وتناقل الرسائل اللغوية «linguistic exchange». بعد ذلك توالت البحوث التي فسّرت هذه الكفاءة انطلاقًا من الوظائف الاجتماعية للغة، بالاعتماد على مقاربات تواصلية، حلت محل سابقتها البنويَّة التي جسدت ولفترة طويلة من الزمن صورة أن اللغة قواعد وبُنى نظرية، والتمكن منها «الكفاءة» تعني التمكّن من اللغة. لتصبح الكفاءة التواصلية الهدف الأسمى في حقل تلعيم اللغات، بعد أن تأكد أن فرضية التمكن من القواعد لا يعني بالضرورة القدرة على استخدام تلك القواعد في عملية التواصل بكيفية سليمة وملائمة. «وهذا موضوع جدير بالعرض في مقال مستقل».
الكفاءة التواصلية، التي تدور حول قدرة الفرد على استعمال اللغة في سياق تواصلي لأداء أغراض تواصلية معيّنة، عرفها ديل هايمز بأنها قدرة الشخص على التصرف بشكل مناسب «appropriate» أمام محدثيه ومعرفة ما يجب قوله، ولمن ومتى وكيف يُقال «ومتى يجب الصمت، أضيف لاحقًا». ويستدعي ذلك احترام مجموعة من القواعد النحوية واللغوية مثل الصوتيات والمفردات والمعاني وقواعد استخدام اللغة المرتبطة بالسياق الاجتماعي التاريخي والثقافي للجماعة، حسب بيئة الاتصال المناسبة، أي ”المقام“ «situation». فعلى هذا الأساس هي قدرة الفرد على تبليغ أغراضه، بواسطة عبارات متعارف عليها، وتعني أيضًا مدى وعي الفرد بالقواعد الحاكمة للاستعمال المناسب في موقف اجتماعي، وتشتمل على مفهومين أساسيين هما ”المناسبة“ و”الفعالية“، وهذان المفهومان يتحققان في كل من اللغة المنطوقة والمكتوبة.
استحسن علماء اللغة التطبيقيُّون المفهوم والمصطلح وبدأوا حواراتهم وأبحاثهم لتطوير عملية تعليم اللغات الثانية. إلى أن أصبحت الكفاءة التواصلية هي الهدف الأساس لتدريس اللغة، وطريقة تدريس «teaching approach» تعرف ب ”الطريقة التواصلية“ «Communicative Approach»، التي تهدف إلى أن القدرة اللغوية التي يكتسبها الفرد لا يراد بها استخدام اللغة بعد استيعاب نظامها، بل إنها عملية فردية واجتماعية معًا، وتكمن فرديته حين تتعلق بالأساليب الخاصة للفرد لمواجهة الموقف، واجتماعية حين تتعلق بالسياق الذي يتم فيه الاتصال.
إن محصلة اكتساب اللغة هي القدرة على التواصل والتبليغ بفاعلية وكفاءة عامة وشاملة تحوي عدة كفاءات أخرى. وهذه ”الكفاءة“ «أي التواصلية»، كما يدعي منظروها، تعكس التمكن من النظام اللغوي، كما تعكس أيضًا إمكانية تكييف هذا النظام مع مختلف أحوال ومواقف الخطابات، وفق استراتجية ومنهجية سليمة. كما أن الكفاءة التواصلية تساهم فيها، بالإضافة إلى الكفاءة اللغوية، قدرات أخرى منطقية ومعرفية واجتماعية، وإدراكية، وغيرها من القدرات التي تندمج أثناء عملية التواصل التي تتفاعل فيها أنماط مختلفة من المعرفة، تتعدى اللغة، لأن استخدام اللغة «السلوك اللغوي» مرتبط بسياقات ومواقف معينة. فعليه ”الكفاءات“ التي تشتمل عليها الكفاءة التواصلية هي كالتالي: [1]
1- الكفاءة النحوية «Grammatical Competence»
وتعرف أيضًا ب ”الكفاءة الرسمية“ «formal competence»، ويراد بها معرفة قواعد اللغة والمفردات وعلم الأصوات ودلالات اللغة، بمعنى آخر، هي ”الكفاءة اللغوية“ «Linguistic Competence».
2- الكفاءة اللغوية الاجتماعية «Sociolinguistic Competence»
وتعرف أيضًا ب ”الكفاءة الاجتماعية والثقافية“ «socio-cultural competence»، أي معرفة العلاقة بين اللغة وسياقها غير اللغوي، ومعرفة كيفية استخدام أنواع مختلفة من أعمال الكلام والاستجابة لها بشكل مناسب، مثل ”الطلبات“ و”الاعتذارات“ و”الشكر“ و”الدعوات“، ومعرفة أي الألقاب وعناوين المخاطب «forms of address التي يجب استخدامها في الحديث مع أشخاص من مختلف الأعمار أو المناصب والوجاهة، وفي مواقف مختلفة، وما إلى ذلك. «هنا تأتي مفاهيم مثل الملاءمة «appropriateness»، والتأذب «politeness»، والدَّور «turn «-taking»».
3- كفاءة الخطاب «Discourse Competence»
والتي تعتبر أحيانًا جزءًا من الكفاءة اللغوية الاجتماعية، أي هي معرفة كيفية بدء وإنهاء المحادثات «هنا تأتي مفاهيم مثل ”أحداث الكلام“ «speech acts» و”تماسك الخطاب، الوحدة الموضوعية“ «discourse cohesion and coherence».
4- الكفاءة الإستراتيجية «Strategic Competence»
هي قدرة المتحدث على استخدام استراتيجيات التواصل اللفظي وغير اللفظي للتعويض عن ضعف اللغة أو القدرة على التواصل أو لتحسين فعالية الاتصال. على سبيل المثال، قد يفتقر المتكلم إلى كلمة أو عبارة معينة، فيلجأ إلى ”إعادة الصياغة“، التعبير بكلمات أخرى، «paraphrasing» أو الإطناب/الإسهاب «circumlocution»، أو التحدث ببطئ أو بطريقة ناعمة لخلق تأثير معين على المستمع. فالكفاءة الإستراتيجية، إذًا هي معرفة ”استراتيجيات الاتصال“ التي يمكن أن تعوض الضعف في مجالات أخرى. بمعنى آخر هي توظيف استراتيجيّات الخطاب والتواصل.
5- الكفاءة الذرائعية «التداولية» «Pragmatic Competence» ٫[2] .
يراد بهذه الكفاءة القدرة على استخدام اللغة بشكل مناسب وفقًا للسياق «مع مراعاة متطلبات معينة مثل المسافة الاجتماعية «social distance» وعدم المباشرة «indirectness» من أجل تحقيق أهداف التواصل. فعندما لا تتم هذه المراعاة قد يحدث ”خطأ تدوالي/ذرائعي“ «pragmatic error»؛ خطأ في التواصل من خلال الاستخدام الخاطئ لفعل الكلام أو أحد قواعد التحدث «Rules of Speaking»، وقد يؤدي إلى ”فشل في التواصل“، يُعرف ب ”الفشل البراغماتي“ «pragmatic failure»، وهو عبارة عن فشل التواصل الذي يحدث عندما يساء فهم الخاصية البراغماتية للرسالة، على سبيل المثال، إذا تم تفسير ”التأسف“ «apology» على أنه ”عذر“ «excuse».
فالكفاءة اللغوية، إذًا، ليست فقط معرفة ما إذا كان ”الأداء“ «الملفوظ أو المكتوب، أو حتى المرموز» صحيحًا قواعديًّا ومعجميًّا أو لا، ولكن أيضًا ما إذا كان ممكنًا أو مناسبًا أو مقبولًا أو متداولًا في المجتمع أو لا؛ فهي شبكة من القدرات والمفاهيم تُأَطِّر للسلوك اللغوي الفردي.
”إثنوغرافيا التواصل“ «Ethnography of Communication»، الأصل ”إثنوغرافيا الكلام“ «Ethnography of Speaking»٫[3] ، هو علم من فروع علم الانثربولوجيا يهتم بدراسة علاقة التواصل بين الأجناس البشرية وثقافاتها وعاداتها، يعتمد على تحليل التواصل ضمن السياق الأوسع للممارسات الاجتماعية والثقافية ومعتقدات الأعضاء المنتمين لثقافة معينة أو لجماعة لغوية. انبثقت إثنوغرافيا التواصل من البحث الإثنوغرافي «Ethnography Research»، وهي طريقة في تحليل الخطاب في اللغويات بالاعتماد على المجال الأنثربولوجي - الإثنوغرافي. على العكس من الإثنوغرافيا التقليدية، تُراعي إثنوغرافيا التواصل كلًا من الصيغة التواصلية، والتي قد تحتوي على اللغة المنطوقة لكنها لا تقتصر عليها، ووظيفة هذه الصيغة ضمن الثقافة المعينة.
تتضمن الأهداف العامة لأسلوب هذا البحث النوعي القدرة على التعرف على أفعال و/أو رموز التواصل الأكثر أهمية للمجموعات المختلفة، وأنواع المعاني التي تُطبقها المجموعات على أحداث التواصل المختلفة، وكيفية تعلم أعضاء المجموعة لهذه الرموز، وذلك من أجل فهم ”سلوكيات“ المجموعات المقصودة. يمكن استعمال هذه الرؤية الإضافية لتحسين التواصل مع أعضاء المجموعة، وإدراك المراد من قرارات المجموعة، وتمييز المجموعات بعضها عن البعض الآخر، إضافة إلى أشياء الأخرى.
اقترح ديل هايمز إثنوغرافيا التواصل ”Ethnography of Communication“٫ «1962م، 1964م» كمنهج لتحليل أنماط استخدام اللغة «اللفظية وغير اللفظية» ضمن الجماعات اللغوية[4] ، وذلك من أجل توفير الدعم الكافي لفكرته عن ”الكفاءة التواصلية“، والتي نتجت بحد ذاتها كرد على تفريق نعوم تشومسكي بين الكفاءة اللغوية والأداء اللغوي، اللذان تم شرحهما أعلاه، وفي المقال السابق. ويرى هايمز أن ”إثنوغرافيا التواصل“، كمصطلح، يجب أن يكون واصفًا للخصائص التي يجب أن يتحلى بها المنهج الرامي لتحليل اللغة من منطلق أنثروبولوجي. يجب أن يتحلى هذا المنهج، وفقًا لديل هايمز، بما يلي:
1- التقصي المباشر لاستخدام اللغة في سياقات حالات مختلفة لاستشفاف أنماط ملائمة لأنشطة الكلام،
2- أخذ المجتمع ك ”سياق“ وتحري ”عادات التواصل“ الخاصة به بأجمعها.
عملية تحليل الصيغة اللغوية، حسب هايمز، يجب أن تتم وفقًا للسياق الاجتماعي الثقافي لاستعمالها ولوظائف المعاني التي تنقلها، بدلًا من تجريدها من وظيفتها ومن تحليل تواصل المجتمع أو الثقافة ولغوياتها. وتوضح اللغوية الاجتماعية ديبرا كاميرون «Deborah Cameron»، 2001م، بأن هذا ينتج وصفًا شاملاً لأشياء ”خارج الكلام“ نفسه، مثل وصف المتحدثين، ومكان وجودهم، والأعراف والمعتقدات المهمة في حياتهم، مما يعطي صورة واضحة عن السلوك اللغوي لجماعة ما، والتي تؤدي بدورها إلى فهمه وتفسيره وتعليمه.
في الختام، هل مفهوم ”الكفاءة التواصيلة“ هو نقدٌ أو تخطأةٌ لمفهوم ”الكفاءة اللغوية“؟ وإن كان كذلك، هل هو نقدٌ مقبول وتخطأةٌ صائبة؟ وإن كان لا هذا ولا ذاك، أهو فقط ”توسعة“ للمفهوم الأصلي؟، وهل تقبلها تشومسكي، صاحب النظرية؟، وكيف رد عليها؟ وهل هو التصور النهائي للقدرة اللغوية، بمعناها العريض؟ بما أن علم اللغة علمٌ حيويّ وسريع التطور في مفاهيمه ونظرياته ومناهجه، لا بد لنا من عودة، أو بالأحرى، تواصل في الحديث عن آخر تطورات مفهوم ”الكفاءة في اللغة“، وذلك بعد أن نتناول مسألة السلوك اللغوي وأنساقه في حالة ذوي الحاجات الخاصة.