السلوك اللغوي..مقاربة مزدوجة «1»
سبق القول في مقال «ماهية البعد اللغوي» [2] إن للغة هيكلًا بنيويًّا بوظائف متعددة، وإن لكل لغة قوم خصائصها. اللغة، في أبسط وأقدم تعريف لها، هي ألفاظ يُعبِّر بها كل قوم عن أغراضهم، والأداة التي تحمل الأفكار، وتنقل المفاهيم، فتقيم بذلك روابط الاتصال بين الأفراد والجماعة والمجتمع، وبها يتم التقارب والانسجام بينهم كمجتمع لغوي «speech community».
الألفاظ هي حاملة «المعاني «التي يراد التعبير عنها وتوصيلها للآخرين، مفردة، أو في جمل «مجموعة كلمات» ترتب بناءً على قواعد اللغة، وكما تنفرد كل لغة بمفرداتها الخاصة بها، عددًا ونوعًا، تنفرد كل لغة ببعض القواعد الخاصة بها لضبط الكلام المركب من هذا الكلمات، وكذلك ببعض أساليب تعبير الخطاب. هذا الناتج المركب «من الكلمة، والقواعد والأسلوب» هو قالب لغوي، فالقوالب اللغوية التي توضع فيها الأفكار، والصور الكلامية التي تصاغ فيها المشاعر والعواطف لا تنفصل مطلقا عن مضمونها الفكري والعاطفي. قال فيختة، الفيلسوف الألماني، ”اللغة تجعل من الأمة الناطقة بها كُلًّا متراصًّا خاضعًا لقوانين. إنها الرابطة الحقيقية بين عالم الأجسام وعالم الأذهان“، وحين تلفظ أو تكتب هذه القوالب تكون «السلوك اللغوي» للفرد، وتداوله في المجتمع يجعله «سلوك لغوي اجتماعي» تتناقله الأجيال، مع تغيرات هنا وهناك بين الأجيال. وهو أمر طبيعي في أمور المجتمع، وهو أمر طبيعي في اللغة، بما يعرف ب ”التطور“، في الحالين.
حتى نعرف ونفهم السلوك اللغوي لابد أن نتكلم عن خلفيته أو منطلقه، ألا وهو القدرة اللغوية «linguistic ability» وعلاقتها بالسلوك اللغوي «الأداء اللّغويّ»، هذه العلاقة هي كعلاقة السّبب بالنّتيجة في تحققها.
”القدرة اللغوية“ أو «الكفاءة اللّغويّة» هي إحدى القضايا الشّائكة في علوم اللغة الّتي تثير العديد من التّساؤلات عند الباحثين، وعلماء اللغة يفرقون بينها وبين ”الأداء اللّغويّ“. فسّر اللغوي البنيوي فرديناند دوسوسير الكفاءة اللّغويّة ب ”اللّسان“ «la langue» والأداء اللّغويّ ب ”الكلام“ «parole»، فهو ينظر إلى اللّسان على أنّه مخزونٌ لغويّ لدى كلّ فرد يستخدمه متى شاء، بينما ”الكلام“، سواءٌ أكان عند المتحدث أو المستمع، هو تفعيل للكفاءة اللّغويّة. بينما يعتبر نعوم تشومسكي «صاحب النظرية التوليدية» ”الكفاءة اللّغويّة“ «linguistic competence» أنّها المعرفة الضّمنيّة الّتي يمتلكها كلّ متحدثٍ أو مستمعٍ عن لغته؛ باعتبارها نظام مستبطن من القواعد الّتي تُتيح للدّماغ أنْ ينتج وأنْ يفهم عددًا لا حصر له من الجمل. «قدرة الإنسان اللّامحدودة في إنتاج الجمل هي عند تشومسكي عملية إبداعيَّة» [3] . ”الأداء اللّغويّ“ «linguistic performance»، في المقابل، هو التّنفيذ الفعليّ للكفاءة اللّغويّة وتجسيدها تجسيدًا واقعيًّا متمثلًا في إنتاج ”الكلام“. فعليه الكفاءة اللّغويّة، مخزون معرفي غير ظاهر، والأداء اللّغويّ سلوك لفظي ظاهر يتمثل في الكلام.
كلُّ إنسان، هو ذات منفردة بنفسها، وتحكمه مدارك عقلية ورغبات وأهواء تختلف عن باقي أفراد المجتمع الذي هو فيه، من الأسرة إلى الدولة. حتى هذه المدارك والمشاعر ليست ثابتة في الفرد الواحد في جميع أوقات يومه أو حياته[4] . والسلوك اللغوي يتلقى روافده، ومواده الأولية من منطقة الشعور في الذات، كما أنه يتلقى أيضًا إشارات وتوجيهات من منطقة اللاشعور. في الأمور العادية في الحياة يكون شعور المرء هو المحرك لسلوك حياته العام، واللغوي أيضًا، لكن في الأمور غير العادية التي تحتاج إلى تأنٍ وتروٍ في القيام ب «السلوك الملائم»، يعتمد الفرد على الجانب اللاشعوري مع الشعوري أيضًا، إذ يصغى إلى أعماق ذاته ويقلب الأمر ويحكم ضميره ووجدانه فيما سيفعل ويقول أو يكتب. بعبارة أخرى، كما أن لغة المرء تتأثر بنوعية الموقف والمقام، وقد قيل: ”لكل مقام مقال“، كذلك السلوك اللغوي للفرد مرتبط بحالته النفسية والذهنية، فعندما يضطرب المرء نفسيًّا أو ذهنيًّا تضطرب لغته وأداؤه فيها وبها.
اللغة، بوصفها سلوكًا، هي ”باطنية“ «اللغة الداخلية»، و”ظاهريَّة“ «اللغة الخارجية».
اللغة الداخلية، أو ما يعرف ب ”الكلام الباطن“ «inner speech» هي اللغة التي تحمل إلينا الإحساسات الداخلية والإشارات والتوجيهات الواردة من النفس، أو التي تحيك فيها. هذا الكلام قد يكون حوارًا ظاهرًا علنيَّا، أو حديث الشخص لنفسه بصوت مسموع، أو كحديث الشخص لآخر. وقد يكون الحوار باطنيًّا خفيًّا يجرى في تيار الشعور النفسي ويدركه الفرد حينما يقف وقفة عقلية ليتأمله، كما يحدث فيما يعرف ”حديث النفس“ أو ”عملية الاستبطان“ «introspection»، الذي قد يجري بإرادة الفرد أو بغير إرادته.
ومن الأفراد من يستعيض عن الحوار الباطني بالصور العقلية المختلفة فيصبح شعوره تيارًا متصلًا من صور بصرية أو سمعية أو غيرها من الصور الحسية، وقد تكون الصور حركية ديناميكية، وقد تكون مزيجًا من ذلك كله. فالإشارة والإيماءة مظهر من مظاهر الصور الحسية الحركية الباطنة، والكلام المسموع مظهر لكلامٍ خفىٍّ باطني، واختلاف المتكلمين في حوارهم الظاهر والباطن راجع لاختلافهم في بناء شخصياتهم بتعدد مكوناتها.
اللغة الخارجية هي اللغة اللفظية «speech»، أي اللغة التي يلفظها اللسان، أي يخرجها، كي يتواصل المرء بها مع الآخرين، وفي منهج العالم اللغوي دي سيسور هي ”الكلام“ parole»، ويراد به كلُّ ما يلفظه أفراد المجتمع المعين ويتداولونه في صورة مفردات وتراكيب ناتجة عما تقوم به أعضاء النطق، بالاعتماد على المعرفة المشتركة لدى الجماعة اللغوية المعينة، في حالة تواصل متكلم ومستمع، فالكلام إذًا، هو إنتاج «production» فردي ملموس لقواعد اللغة وضوابطها قائم على عنصر ”الاختيار“ «personal choice». أمَّا الكتابة فهي مجرد رسوم وصور للكلام حسب نظام معين.
التحادث مع الآخرين «interaction» هو أحد أنواع اللغة اللفظية، وهو في أبسط صوره إلى يهدف التآلف الاجتماعي phatic communion [5] ، وبذلك تبدو لغته عادةً سهلة فياضة، بلا تكلف أو ”تمنطق“، فالأفكار المطروحة سطحية وبسيطة. هذا النمط من الأحاديث العابرة التي تنشأ بين المعارف أو حتى بين الأغراب، هي في العادة تتناول أمورًا عامة كالاستفسار عن الصحة، والتعليق على حالة الجو، وتأكيد بعض البديهيات والمشتركات، وتبادل قصص الحياة، يتم في بعضها الاستطراد، والدعابة والملاطفة. المعرفة أو الإيضاح في هذا النوع من توظيفات اللغة اللفظية ليس هدفًا في ذاته، إنما الألفة الاجتماعية وتكوين العلاقات، وبعضها ينتهي بانتهاء المناسبة الجامعة.
رغم أن الوظيفة الكبرى للغة هي الوظيفة الاجتماعية، إلا أن بعض الناس يعزف عن استعمالها أو استغلالها، ويبتعد عن النقاش مع غيره، وإن كان داخله يريد أن ”يتكلم“ ليعبر عما في خاطره؛ وربما يرغب في أن يستفيض ويستطرد في لغوه وثرثرته لإظهار أحاسيسه ومشاعره. قد يكون هذا العزوف بسبب الخجل، وهو حالة نفسية، وقد يكون مصدره لغويًّا.
العزوف عن ”التمازج اللغوي“ مع الآخرين في أحاديث وحوارات، قد يكون سلوكًا خاصًا لتجنب اللغة اللفظية مع الآخرين، أو نوعًا منهم، كأن يحسب، لغتهم «لغة ثقيلة»، وقد يكون سلوكًا مرجعه عجز في» القدرة اللغوية» عند الفرد، إذ يحول عجزه بينه وبين صياغة أفكاره صياغة لفظية واضحة، فيشعر بالحرج في حواره مع غيره. كثرة التبسم في وجه المتحدث المقابل، أو/و المبالغة في «لغة الجسد» من حركات اليد، وهز الرأس وتعبيرات الوجه، قد تكون مؤشرات الضعف اللغوي. الضعف اللغوي يحدث بسبب اضطرابات لغوية، والتي تكون خللًا ما في إحدى أو كلتا اللغتين اللتين تم ذكرهما آنفًا «اللغة الداخلية» و«اللغة الخارجية». بعض حالاته تتحول إلى عجز اللغوي.
«القدرة اللغوية» استعداد فطري يولد به الإنسان لكنها منتج اجتماعي كما ذكرنا آنفًا؛ فاللغة لا يمكن أن تكتسب بدون وسط اجتماعي، فقابلية الطفل المعزول عن الوسط الاجتماعي للتكلم متوفرة طالما أن إمكانياته العقلية سليمة، والنمو اللغوي للطفل يحتاج إلى التحدث مع أترابه والسماع منهم، وبعض الآباء، لدواعي الحفظ والحماية، يفرضون عزلة على أطفالهم الصغار، بمنعهم من مخالطة أقرانهم وجيرانهم، مما تكون هذه العزلة سببًا في تأخير النمو اللغوي السوي، وكثير من حالات التلعثم في اللسان وضعف اللغة أو الابتعاد عن الحوار، كما ذكرنا أعلاه، قد يرجع إلى أساليب التعامل الخاطئة لغويَّا، أو بسبب عزلهم عن اللعب مع أترابهم، من هم في أعمارهم، في سنٍ مبكرة. هذه العزلة تحرم الطفل من الإمداد اللغوي «linguistic input» لتفعيل آلية الاستعداد الفطري للعمل ومعالجة النصوص التي يسمعها، ويحرمه كذلك من التواصل اللغوي «language interaction» الضروري في نمو القدرة التفاعلية للحوار والحديث مع الآخرين، وقد ثبت هذا ليس فقط بالدراسات والبحوث، لكن بالمعاينة المباشرة، التي أكدت وجود ارتباط قوي بين حالات الأطفال المحرومين من عملية التنشئة الاجتماعية، التي تغيب فيها اللغة، أو يشوبها العطب، وبين بعض الاضطرابات العقلية. هذه الحالات تعرف ب حالات ”الطفل الوحشي“ «Feral Children /Wild Children»، وهم أطفال بشر عاشوا بمعزل عن الاتصال البشري منذ صغرهم، وبالتالي لم يكن لديهم خبرة في السلوك الإنساني مع عدم النمو اللغوي، وفي أفضل الحالات تأخره الشديد، مما أدى إلى فشل محاولات التربية اللغوية لتعليمهم وتهذيبهم.
هذه الحالات أكدت ضرورة اللغة كوسيلة في عملية التنشئة الاجتماعية وجعلها هدفًا في ذاتها. عن طريق اللغة يتعلم الطفل كيف يكون إنسانًا، ابتداءً من الأكل والنوم والمشي وضبط التبول والتغوط، ثم عن طريقها أيضًا تساهم المؤسسات التربوية والاجتماعية، كالمدرسة والتلفزيون، في نموه الاجتماعي واللغوي. وأيضًا، عن طريقها جميعًا، يتعلم لغة الحديث والكتابة والقراءة، بعد أن أتقن الكلام في سنواته الأولى. بها يصبح كائنًا اجتماعيًّا بنفسية وشخصية منفردة لكن متناسقة مع ”سلوك الجماعة“ التي نشأ فيها.
لكن ربما أحد يسأل، وهو محق في سؤاله: ماذا عن ذوي الحاجات الخاصة، المتعلقة باللغة، مثل الصَّمَم والبَكَم؟
هذا ما نحاول أن نجيب عنه في الجزء الثاني من هذا المقال.
يتبع...