آخر تحديث: 25 / 4 / 2024م - 9:08 م

علي الدميني... نجم لا يأفل

زكي أبو السعود *

زكي ابو السعود.

حدث تعارفي بعلي الدميني في الثمانيات من القرن المنصرم، حينما شاءت الصدف أن نجتمع في الرياض في لقاء غير مخطط له. لم تكن ظروف اللقاء سارة لكلينا، ولكنه أتاح لنا التعرف على بعض. ومنذ ذلك الوقت كسبتُ صديقاً وفياً يترك لأصدقائه ”أن يربون قطعانهم في حشائش ذاكرته“ ودائما ما ”يخشى عليهم من جنون الصبي“.

أمضينا في مكاننا المشترك بضعة أشهر، لكل منا حجرته، وفي الليل حينما تنصب خيمة الصمت اوتداها، كان يطيب لعلي ترديد أبيات من قصيدة مشهورة للشاعر المصري أمل دنقل، وكأنها دعاء يقرأه ليقي نفسه من تبعات الكوابيس الليلية.

كنت اعرف علي الدميني بالاسم فقط من خلال كتاباته في ”المربد“ وفي بعض المجلات المحلية. والحق أني في بدايات قراءتي غير المدرسية لم يكن الشعر يستهويني مثلما كان السرد. فقد فتحت لي القصة والرواية العربية والمترجمة الباب، الذي منه تسللت إلى عالم الثقافة الواسع. وصادف أثناء ما كنت طالبا في المرحلة الثانوية أن قرأت كتاب ”شعرنا الحديث إلى أين؟“ للناقد المصري المعروف الدكتور غالي شكري. فأرشدني الكتاب إلى ما كنت أجهله عن الشعر العربي الحديث ومدارسه المختلفة والانتماءات الفكرية للشعراء الحداثيين. ففي صفحاته اكتشفت أن قطار الشعر لم يتوقف عند محطة واحدة كما توقف قطار الحجاز، بل هو في ديناميكية مستمرة ناجمة من طبيعة جدلية المجتمع. لقد كانت محتويات الكتاب تختلف اختلافاً شاسعاً عن محتويات الكتب المدرسية. فقد كانت مناهجنا المدرسية في اللغة العربية من ”قواعد“ و”نقد وبلاغة“ جافة بلا جاذبية للطالب، بعيدة عن روح العصر وغير متابعة للمستجدات في عالمي الشعر والنثر معاً، فلا كانت توسع مدارك من رزقه الله بموهبة الشعر، ولا كانت تثري ثقافة اصحاب الميول الأدبية سردا كان أم شعرا، خاصة حينما لا يكون للمعلم علاقة بالأدب سوى تأدية واجبه الوظيفي.

ولأني وجدت متعة وفائدة في كتاب شكري ظللت أبحث عن كتب مشابهة له في المكتبات المحلية، ولكن دون جدوى. ومع ذلك بقي الميل إلى هذا النوع من الكتابة النقدية مرافق لي حتى يومنا هذا. وهو الذي جعلني قارئا منتظما لمقالات علي الدميني الأدبية، التي لمست فيها نسقا ًمشابها للنسق الكتابي الذي انتهجه غالي شكري في كتابه، وأن صاحب هذه المقالات كان يكتب بفكر نير ورؤية عصرية لا تغفل تأثير التراث، ولا تبخس قيمته، وهي القواعد نفسها التي ارتكز عليها الدكتور غالي شكري في هذا الكتاب. وكانت جرائدنا خلال السنوات الأولى من الثمانيات قلما تنشر مقالات بهذه النوعية؛ مما أعطا لمقالات علي قيمة متميزة.

اليوم، وبعد كل هذا الزخم من الشعراء السعوديين المبدعين، يمكن القول إنه لو كُتب لغالي شكري أن يكون اليوم على قيد الحياة، ويعيد صياغة كتابه لربما وجد أن هناك قائمة من الشعراء السعوديين يستحقون أن يضمهم لكتابه، وسيكون دون أي شك أسم علي الدميني أحد المرشحين للتربع على رأس هذه القائمة، لتجربته وذائقته الشعرية ومسار تطور القصيدة لديه، خاصة وان الكتاب لم يتضمن تجربة أي شاعر من الجزيرة العربية.

بعد تخرجي من الثانوية قررت مغادرة الوطن للدراسة الجامعية، فحط بي رحالي ارض العراق في صيف 1970.

كانت بغداد مدينة تنبض بكل أشكال الفعل الثقافي. وقد هالني - وانا القادم من أجواء تتحفظ على نوعية الكتاب - ما كان متاحاً فيها من كتب ومجلات ثقافية، التي يمكن لأي شخص أن يثري ثقافته، ويوسع من اطلاعه على مختلف المواضيع الفكرية والأدبية بتكلفة بسيطة. ليس صعباً حين المقارنة بين أجوائنا وأجواء العراق الثقافية في تلك الفترة ان تلحظ غياب الرواية أو القصة السعودية، ومحدودية كتب النقد الادبي، بينما كان الشعراء أكثر الأسماء بروزا وشهرة في الوسط الثقافي السعودي. ولكن كان قلة منهم انتسبوا إلى مدرسة الشعر الحديث، وتبنوا قضايا التغيير الاجتماعي النهضوي في مواضيع شعرهم. وقد كانت البلاد عطشى لهذا النوع من الشعر والشعراء. فالحياة الثقافية السعودية كانت في أمس الحاجة لأجنحة شابة تنطلق بها نحو آفاق جديدة. وكانت تنتظر ولادة شعراء كعلي الدميني وزملائه من شعراء الحداثة السعودية الذين ظهروا على مسرح الشعر السعودي منذ نهاية السبعينات. والحمد لله انه لا زالت أسماء جديدة مستمرة في التوافد على مسرح الشعر، والأمل بأن يظهر من بينهم من سيقدم لنا شعراً راقياً كما قدمه علي الدميني وأسماء كبيرة أخرى بعضها رحل عنا، ولكنهم تركوا لنا إرثا عظيما.

بعد عامين تقريبا من العيش في بغداد، غادرتها لدراسة القانون في جامعة الصداقة بموسكو. ومن تبعات الدراسة في موسكو في تلك السنين قلة التواصل مع الأهل والاصدقاء، والانقطاع عن الفعاليات الثقافية السعودية، ومتابعة ما يستجد في الساحة الأدبية. فالمعلومات التي كانت تقدمها جريدة عكاظ - وهي الصحيفة الوحيدة التي كانت تصل لرابطة الطلبة السعوديين في الاتحاد السوفيتي مباشرة من جدة - لم تكن كافية لرسم صورة واضحة لما كان يحدث في ساحات الشعر والادب. وكان التساؤل يتكرر بيننا «الطلبة السعوديون» عن اللحظة الذي سيبزغ فيها مجددين للشعر السعودي؟

بعد تخرجي من الجامعة والعودة للوطن التحقت بالعمل المصرفي. وهو عمل مضن لا يمنح العاملين فيه وقتاً للقراءات الخارجية. كنت أنتظر نهاية الأسبوع كي أمنح نفسي إجازة من عالم المال والأرقام، فكانت ”المربد“ والصفحات الثقافية في الجرائد السعودية ملاذي الذي كنت الجأ إليه بعيداً عن عالمي اليومي المرهق ذهنياً.

ولا أجدني مبالغاً حينما أقول بان ملحق ”المربد“ كان عاملاً رئيسياً في انتشار الصحيفة بين أوساط المثقفين في المنطقة الشرقية وخارجها والفضل يعود لمن تولى الكتابة فيها، وعلى رأسهم الأستاذ محمد العلي وعلي الدميني وزملاؤهم من الاسماء الشابة، الذين أسهموا في تأسيس حركة أدبية حداثية كانت البلاد تنتظرها لحاجتها إليها في تلك الفترة الهامة من تطور البلاد الاقتصادي والاجتماعي.

أتاحت الملاحق الأدبية للصحف السعودية المجال لبروز أسماء جديدة بمواهب واعدة، أدت دوراً هاماً في تلوين المنظر الثقافي العام. ومع ازدياد وتنوع النشاط الثقافي الوطني أصبحت الحاجة لقناة أوسع وبسقف أعلى تزداد يوما بعد يوم، فكان صدور مجلة " الثقافة المعاصرة“استجابة لهذه الحاجة وتلبية لنداء بعض المثقفين. رغم قصر عمرها وقلة اعدادها، الا أنها قدمت لقرائها مادة ثرية شملت كافة حقول الثقافة، سوى بنوعية ومحتوى مواضيعها، أو في تخطيها سقف ما كان ينشر على صفحات المجلات والصحف المحلية. ومن ضمن ذلك تصديها للفكر الصحوي الظلامي وتعريتها لأطروحات رموزه المتسترين بأقنعة دعوية وتعليمية، والذين أثبتت الأيام مدى الضرر الذي ألحقوه بحياتنا الاجتماعية والثقافية.

ومرة أخرى أكاد أزعم بأنه لو كتب لهذه المجلة الاستمرارية فلربما أسهمت في ولادة أكثر من مبدع سعودي في الشعر أو في السرد، ولربما كانت أجراسها نبهتنا قبل الوقوع في مصيدة الفكر الصحوي.

بعد توقف ”الثقافة المعاصرة“علمتُ أن علي الدميني كان ضمن فرسان تحريرها، وكان دوره رئيسياً في إخراجها، وفي توزيعها بين أوساط بعض المثقفين. كانت قناعته بجدوى هذا النوع من المطبوعات، أن سعى لإصدار مجلة جديدة بديلة لها وبشكل مختلف يضمن لها عدم الانقطاع، فكانت مجلة“ النص الجديد" التي عمل جاهدا للتغلب على معوقات إصدارها. إلا انها هي الأخرى لم يكتب لها الاستمرارية، وتوقفت بعد صدور بضعة أعداد منها، رغم العناء الكبير الذي بذله في سبيل بقائها.

كان علي الدميني عاشقا للثقافة الإنسانية متيماً بها ومؤمنا بقدرتها في المساعدة على تخليص العالم من شروره.

وكان على يقين راسخ بأن الارتقاء بمستوى الناس الثقافي وفق ثقافة إنسانية عصرية تحترم الإنسان، وتمنحه حق المشاركة ككائن مسؤول عن واقعه ومجتمعه، سيكون له تأثيره المحفز في إيجاد بيئة صالحة تتهيأ فيها المقومات لخلق نهضة حضارية وتقدم حقيقي ومستدام للوطن. لقد كلفه يقينه هذا كثيرا، فحجم العراقيل والصعوبات والتحديات التي واجهته في محاولاته لتمكين الثقافة من لعب دورها في تطوير وتحديث وتمدين الوطن، كانت في كثير من الأحيان بالغة الثقل والقساوة. لكل نفس بشرية حدود في قدراتها، ومن الطبيعي أن يراود الإنسان بعضاً من القلق والشك في قدراته الذاتية، حين تعرضه لموقف صعب لم يتعرض له من قبل، باستثناء من تكون قناعاتهم وإيمانهم بأنفسهم تتفوق على لحظات الضعف وإغراءات السلامة. من هذا الصنف من البشر كان علي الدميني، الذي لم يستسلم لهذه اللحظات، وتغلبت نفسه عليها. فمع كل موقف صعب ينتصب امامه كان يطلب من فؤاده بأن يقاوم الضعف ويصطبر، وأن يعينه على مظلمات السري. فالباطل لن يكف عن محاولاته في تشكيكه في قناعاته، ويضغط عليه:

كي يجادل البرهان، ويغير الشارة والمكان، لكن علي قاوم، ورغم ما خسر، فقد كان واثقاً من أنه سيكسب الرهان.

وفعلا، فقد كسب علي احترام وتقدير خيرة مثقفي ومفكري وادباء هذا الوطن العزيز، ببقائه قابضاً على ولائه وإخلاصه لوطنه، ولم يتخل أو يتنازل عن ذلك في مختلف الظروف. وقد تجلى ذلك عملياً في مواقفه وممارساته كمثقف عضوي مستعيناً بما امتلك من فكر إنساني واع لمسيرة الحياة.

لم يكن علي الدميني كشاعر يسعى إلى امتلاك المادة ولا الأشياء التي تغطي وجه البسيطة، ولكنه بخياله الخصب وبضميره الحي وثقافته النوعية كان يسعى لتحرير القصيدة «الشعر» من عطالتها وسوء استخدام الكائن البشري لها، لتغدو أغنية وفضاء للتأمل، وحقولا تفيض بالدهشة والمتعة والجمال. ولكن مكانته كمبدع لم تقتصر على شعره فقط، فروايته اليتيمة «الغيمة الرصاصية» والتي هي أشبه بالسيرة الذاتية ظهرت وكأن كاتبها قاص متمرس أصدر أكثر من عمل سردي قبل إخراجها. كل ذلك جعل من علي الدميني أديبا بكل ما نقصد بذلك من معنى.

وفي ذات الوقت كان نموذجا للمثقف الوطني العضوي الملتزم بحب وطنه والإنساني في حسه ومشاعره.

عام مضى على رحيلك يا علي، وها أنا اخاطبك بما خاطبتني من قبل. فالحسرة هي نفسها ووجع الرحيل هو نفسه.

"وحرائق الأكباد بعدك تمطر

ونوارس الأيام تغرق في الأسى

وعرائس الإنشاد بعدك تسخرُ

إن كان أوجعنا الزمان، فإنهُ

آنا سيكسرنا، وآناً، يجبرُ. "

عام مضى ولا زال وهجك يشع في ارجاء الوطن، ولا زالت ذكراك تلهم الساعين نحو خير وطننا وكرامة شعبنا.

فأنت يا علي كالنجوم السرمدية لا يأفلها التاريخ.

بكالوريوس في القانون الدولي، ودبلوم علوم مصرفية. مصرفي سابق، تولى عدة مناصب تنفيذية، آخرها المدير العام الإقليمي…