آخر تحديث: 26 / 4 / 2024م - 1:52 ص

بين يدي الإمام الرضا (ع)

العقل الواعي ضمانة الاتزان الفكري والسلوكي:

سئل الإمام الرضا : ما العقل؟

فقال: التجرع للغصّة ومداهنة الأعداء ومداراة الأصدقاء» «مشكاة الأنوار ج 1 ص 249».

من أعظم النعم الإلهية على الإنسان هو هبة النور الذي يسير به في ظلمات دروب الحياة ومتاهاتها ألا وهو العقل والمسمى بالرسول الباطني، وذلك أن المرء إذا صفا له جو التفكير بعيدا عن الضغوط النفسية والتقليد الأعمى والتعصب، وآزر تفكيره بنظرة من فطرته السليمة استطاع أن يصل إلى حقائق كثير من الأمور والمفاهيم، فمفهوم التوحيد والتدبير الإلهي للكون وما فيه - مثلا - لا يحتاج إلى جهد تفكيري كبير، بل يتوصل له العقل الواعي والمنصف متى ما تأمل قليلا في الأمر وتدبر في حركة الكون الجوهرية، وهكذا في أكثر القضايا التي تواجهه يستطيع أن يميز طريق الصواب من الخطأ، وبالنظر إلى عواقب ونتائج خطواته يستطيع أن يتخذ القرار المناسب والحاسم سواء بالإقدام أم التراجع، ولكن الكثير من خطواتنا الخاطئة هي نتاج تدخل العواطف المتأججة والتهور في الفعل والاتباع الأعمى للغير، فأكثر الاحتكاكات مع الآخرين والحوارات الساخنة وما ينجم عنها من مشاحنات وخصومات ليست وليدة خطأ في التفكير، بل تدخل عامل هدم كبير وهو استفزاز المشاعر وتقدم هوى النفس في المشهد مع تعطيل العقل، وكذلك المشاكل بين الزوجين وعلى مستوى أفراد الأسرة هي نتاج نوبات الغضب والطيش في الكلام فخلفت الزعل والخصومة، ولكن إذا حكمنا عقولنا وجعلناها حاضرة في المواقف الصعبة والحساسة لجنبنا الكثير من الخلافات والضغوط الحياتية، ولذا يؤكد علماء الأخلاق والتربية على مبدأ حياتي مهم وفعال في تسيير دفة حياتنا نحو التصالح مع الذات والسلام مع الآخرين ألا وهو ضبط النفس والأعصاب، وهذا المبدأ والتروي في الكلام والحكمة في التصرفات جزء من ثقافة وتربية الأبناء، والتي يتلقونها بشكل عملي من خلال علاقة الوالدين وكيفية تصرفهم في مثل الظروف الملتهبة بتأن وضبط للأعصاب قدر الإمكان.

كما أن نقاشاتنا المباشرة أو على مستوى برامج التواصل الاجتماعي لا بد أن يسودها مبدأ الاحترام للآخر وإن اختلفت معه في الفكرة أو وجهة النظر، والالتفات لعامل الاستفزاز والتعامل معه وكأنه آفة لأنه يصيبنا بالشلل في الفكر والطيش في التعامل مع الغير.

ويذكر لنا الإمام الرضا ثلاثة مواضع يحضر فيها العقل الرشيد بقوة ويخلصنا من المواقف والمآزق الصعبة، وهذه المواطن مذكورة على سبيل المثال لا الحصر ولنا أن ننطلق في تصور دور الوعي والتروي في الفكر والعمل في كل مواقفنا الحياتية، وأول هذه المواقف التي نحتاج فيها لحضور الحكمة هي تجرع الغصص أي الصبر على المصاعب والآلام وامتصاص غضبنا، وذلك لنتمكن من التخلص من حالة المفاجأة والرجوع إلى اتزاننا الفكري والانفعالي، ومن ثم التفكير في كيفية مواجهة الموقف والتخلص من آثاره، مع التعايش والتكيف مع الآلام المصاحبة له وإلا فإن الجزع واليأس وندب الحظوظ والتشكي لن يغير من الواقع شيئا، فالمواقف الحياتية الصعبة تلون أيامنا وتحضر بقوة في كثير من المحطات، وما لم نتعامل معها بهدوء فسنقع في الكثير من المشاكل التي تكبر وتتضخم حتى تثقل كاهلنا.

والموطن الثاني الذي يذكره الإمام الرضا هو المداهنة مع الأعداء، وليس المقصود بها بيع الدين والمبادئ القيمية في سبيل الظفر بعلاقة يحفظ بها مصالحه مع أعدائه، بل المداهنة معهم هي التروي والحكمة في التعامل حتى مع الأعداء درءا لشرورهم والأضرار الحاصلة منهم، فمع وضوح القيم الأخلاقية التربوية التي تحملها وبالتالي تجنب الكذب والخيانة في أي تعامل، قد تضطر للمصالحة والهدنة مع العدو كما كان من رسول الله ﷺ في صلح الحديبية، حيث تجد أن الدخول في معركة شرسة مع عدوك قد يجلب لك الخراب والدمار، فتصل إلى قناعة بأن المصلحة تكمن في تجنب المواجهة معه مع المحافظة على قيمك وأخلاقك.

والموطن الأخير هو مداراة الأصدقاء وحفظ الود والاحترام معهم مهما كانت نقطة اتساع الاختلاف على أمر ما، فمن الخطأ التفكير في الدخول في مشاحنة وقطيعة مع الصديق بسبب سوء فهم أو إساءة غير مقصودة، وإلا فإن علاقاتنا ستبقى متوترة مع أكثر الناس ونكون منبوذين، ومزقنا الاحتراب والتناحر الاجتماعي وخرجنا عن طور الاتزان العقلي تماما، بل التسامح والتغافل عن صغائر الأمور والتغاضي عن الهفوات هو عين العقل الرشيد.