الحلقة الرابعة من سلسلة حوارات خيالية بين الشاعر علي بن مكي الشيخ ودواوين مجموعة من الشعراء
ديوان ”نبوءة.. وهواجس غفران“ .. للشاعر السعودي محمد أبو عبد الله - القطيف - العوامية
في حضرته فقط تشعر أنك أمام منظومة من الرقة والجمال والألق والعذوبة والدهشة واللامكان..
وفي ديوانه فقط.. تشمُّ رائحة المجاز، فتلتصق بهندامك خيوط الكبرياء، وفخامة العشق، وأنويّة المحبوب.. ونهنهات المحروم الغارق باللاهوت..
محمد أبو عبد الله.. خلاصة تجربةٍ شعرية، إنسانية..
ألتقيه هنا عبر منصة الخيال الشعري.. علنا نتبلل بمجازات هواجسه.. ونغرق في نبوءة غفرانه..
السؤال الأول:
إلى من يعود الفضل.. في اكتشافك شاعرًا؟!
وماذا كتبت له وفاء لهذا الصنيع؟!
أبوعبد الله:
إلى خالي العزيز / فتحي الزنادي، فقد - أراحني على تعبه..
وكتبت له قائلا:
إنسانك الأزرقُ المسكوبُ
في وجعي
مازال في لغة الأيام يتسعُ
أبدعتني شاعرًا تأبى مجرتُهُ
أن يستقرَّ على أفلاكها الوجعُ
فكان مثلك.. مفتونًا بجرأتِهِ
مهما تساقطت الأحلامُ، يرتفعُ
أحسنت.. وشكرا لهذا الوفاء.. وللخال الغالي الذي أفرز لنا هذه الموهبة الخلاقة..
السؤال الثاني:
التناقض والشك.. أدوات فاعلة في تكوين الرؤية الشعرية.. وظيفة النص أن يخلخل اليقين والثابت كما يقال.
كيف وظفت مثل هذه المفردات في نصوصك؟!
أبو عبد الله:
بل أذهب إلى أبعد مما ذكرت يا عزيزي.
فأنا أعتبر الشك من المعجزات
- ماشاء الله.. وكيف؟!
أبو عبد الله:
سأدلك ببعض المقاطع التي كتبتها مثلا:
”وحدي أفتّشُ فيَّ عن نفسي
وأفتحني على المجهول
لم أعرفْ بأنّ الشكَ معجزة اليقينْ
وأنني لغزٌ تكشّف في مفاهيم الحياة“
وأزيدك أيضا:
هذا التناقضُ فيه بعضُ نبوءتي
أخفيه عن ذاتي يفضحني الحنين..
..
أولست
من علّمتني يوما
بأنّ الشكَ يقدحُ نشوة الفنانِ
السؤال الثالث:
للشاعر سيرته الشعرية.. وتعريفه الخاص به.. هلّا أوضّحت عن «أناك الشاعرة»؟!
أبو عبد الله:
أنا عاشق..
أبني السنين بقبلةٍ..
وبقبلة أخرى أراهن بالسنين
زدني أكثر عنك..!!
أما أنا كصلاة الحبّ بينهم
أغفو..فيقرؤني التاريخُ والأدبُ
ومازلتُ أعبرُ في الآفاقُ منفجرًا
ويستريحُ على أنفاسيَ التعبُ
أمضى..
وتتعبني الأيامُ في ولهٍ
يكادُ من فرطهِ يشدو وينسكبُ
وماذا عن الوحي؟!
يصغي ليَ الوحيُ لا غيبٌ يخبّئني
ولا العذوبةُ قبلي مسّها العربُ
غنّت على لغتي سبعون معجزةً
حتى استفاقَ على ألحانه الطربُ
السؤال الرابع:
حدثني عن معاناة الشاعر القادم من رحم المجهول
أبو عبد الله:
عبثًا أحاول أن أرمم
جرأة المعنى..
وأن تتسرب الأحلام بين الأمنياتْ
بعضي تبرّأَ من حنيني
واستحلّ
الأمسُ بعضي
والمسافات استدارت حين عانقها الشتاتْ
وحدي أموتُ ولا أموتُ
أحدّثُ الأنفاس عني حين أعزفها
وأمشي مثقل الساعات
نحو هوامشٍ تعبتْ
وشيّعها الضياع إلى ضفاف المفردات
كلّي.. تبعثر في خطى بعضي
وأدرك أنني كالبحر
نقبلُ أن نتيهَ
ونرفضُ التجديفَ في رحم القناةْ
السؤال الخامس:
يقول الشاعر عدنان الصايغ:
”إن الشاعر يشكل الأمكنة التي يزورها، والأشخاص التي يلتقي بها.....“
أبو عبد الله.. من أين اكتسب فرادته؟!
ما الرؤية التي تسكنك كشاعر نبي ومن أي التضاريس أتيتَ؟!
أبو عبد الله:
أتيتُ..
ورحلتي حبلى بمائي
ألملمُ ما تساقط من غنائي
وأحملُ خلف عاطفتي نبيًا
تحرر من يفينِ الأنبياءِ
يقايضُ في القصيدةِ كلّ وحيٍ
يغرر بي ويكشفُ لي غطائي
فأمضي لا يدلُّ عليَّ خطوي
كأنّ الكون مختزلٌ ورائي
السؤال السادس:
ماذا تقول لمنْ يريد أن يعقلنَ النص.. أو أن يتلبس بالماضي الشعري.. ولا يريد أن ينفكّ عنه؟!
أبو عبد الله:
أقول له أولا:
هل أدمنتك غواية الماضي
فلم تشبعك بعْدُ براءةُ الإيمانِ
أم كنت تؤمنُ بالقصيدة ريثما
خذلتك منها رعشةُ الإدمانِ
وأهمس له ثانيا:
افتحْ جنونكَ
لا تدع للعقل أنْ يفتضّ
صوت الروح والتحنانِ
فالعقلُ دربٌ حالكٌ
أنّى له أنْ يشتهي حريةَ الألوانِ
فالعقلُ يسبحُ في مدارٍ مفردِ
وأنا أريدك في مدارٍ ثاني
السؤال السابع:
من جوابك السابق.. يقودنا الحوار لسؤال مهم.. وهو أن النص الواعي هو ما يشاكسُ ذائقة المتلقي في كل مرة
والشاعر الفذ لا بد أن يهدم الثوابت المتوقعة.. ويكسر أفق التوقع..
فلابد من الجرأة.. والمغامرة..
هل حاولت أن تشاكس.. أو تغامر في تجربتك..
حبذا لو أوقفتني على نموذج شعري من روائعك!!
أبو عبد الله:
في نصي
”ذنبٌ تحرسه الذاكرة“ لعلي أدعي أنني حاولت المغامرة.. ومشاكسة المتلقي.. وذلك في تناول ما كان ثابتًا لدى البعض.. وتحطيم صنمية الدلالة لبعض الألفاظ.. وإن كانت مقدسة.. وأقول في ذلك
لا بدّ.
أن يشتهيك الذنب في لغتي
حتى أراك.. كما تحتاجُ معصيتي
فالذنبُ..
موهبةٌ عظمى ولستُ أنا
منْ تقتلُ التوبةُ البيضاءُ موهبتي
كأنّ في
جسدِ الأنثى ملائكةً
تطيرُ في الخلدِ لكن دون أجنحةِ
حسبُ
القصيدةِ أنّي حين أبعثُها
من رعشةٍ تطلبُ الأنفاسُ مغفرتي
زدني بمثال آخر يا عزيزي:
- حسنا لك أن تقرأ من قصيدة ”موعدٌ مع وهم“
”كلما خبأك الوهم.. تذكرتُ من الوهم
بأنّ الشعرَ لا ينسى
ولا يبقى على قارعةِ التوبةِ
فالتوبةُ إثمٌ آخرٌ في دفترِ الغيبِ
ولا أحملُ في جرحيَ ممحاةً
تريحُ القل
بَ مما لا يطيق“
السؤال الثامن:
أخذ الحب مساحة واسعة من تجربة النبوءة..
ماهو تعريفك للحب؟!
أبو عبد الله:
الحب.. والشعر.. مفاهيم لاحدود لها ولا أطر محدودة.. رغم أنها في كلّ شيءٍ نعيشه.. ولكني سأنتقي لك بعض ما كتبتُ من الشواهد:
الحبُّّ لا كيف فيه
لا زمانَ لهُ
لا كان تسكنُ في عينيه أو سوفا
الحبُّ كالبحر
بالأيام نمسحُهُ
منْ أيّ ذاكرةٍ تصغي إلى المرفا
الحبُّ مفردةٌ.. كالروحِ
عاريةٌ منَ الحروفِ وعن إيمانَها تعفى
- جميل.. وهل مازلت تبحث عن الحب؟!
تماما.. وقد كتبت في ذلك
وحيدٌ..
على أرق الوقت
أبحث فيكِ عن الحبِّ
عنّي، عن الذكرياتِ البريئةِ، عن شهقةٍ مهملةْ
- طيب وهل غامرت من أجل الحب؟!
بلا شك.. الحب.. بلا مغامرة لايعد طاهرا.. وفي ذلك كتبت:
وما همني أن أجرب قبل الوصول لعينيكِ
عشرين موتًا
وما خفتُ أن يستغلّ الضياعُ طريقي
أنّي أحبكِ...
أكثر من أيّ حبٍّ
ولا يخطئُ القلبُ حين يحبُّ!!
السؤال التاسع:
يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي.. ”الشعراء أمراء الكلام“
حبيبي أبا حسين..
لو كانت للشعر دولة..
بماذا ستخاطبها؟!
أبو عبد الله:
في دولة الشعرِ أوطانٌ ومغتربُ
تفنى ونبقى لروحِ الشعر ننتسبُ
يا دولةَ الشعرِ إني فيك متسعٌ
حتى حدودك في لقياه تضطربُ
يا دولةَ الشعرِ خلّي بيننا زمننا
الوقتُ تملؤه في حكمك الريبُ
ها أنت بعضُ حكايا هاجرت وأنا
أغفو.. فيقرؤني التاريخُ والأدبُ!!
السؤال العاشر:
ماذا قلت لها، وأنت تحاول أنت تنتشلها من غرق النسيان؟!
أبو عبد الله:
لا تطيلي الصمت
كوني الفكرةَ الأولى..
فهذا الصوتُ لا يمكنه أن يحفظَ السرَّ
على بعدِ صلاتين
ولا أنت تجيدينَ سوى الركضِ وراء الخوف
من كلّ بريقْ
شكرا عزيزي لسعة صدرك.. ورحابة هذا المنجز العريق.. الذي نتنفس من خلاله عبق الجمال.