آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 8:37 م

من وصايا الإمام الصادق (ع) الذهبية

الشيخ عبد الله اليوسف *

اعتنى الإمام جعفر الصادق عناية كبيرة بتربية شيعته وأصحابه وأتباعه وطلابه على أخلاق الإسلام وآدابه، ويجد المتتبع لتراثه الكثير من الوصايا والتوجيهات والإرشادات الأخلاقية والتربوية والسلوكية بهدف بناء شخصيات ذات قمم علمية وأخلاقية عالية، بحيث يعكسوا في سلوكهم وتعاملهم مع الناس أخلاق أهل البيت وسيرتهم المباركة.

ومن أهم هذه الوصايا الذهبية ما رواه الشيخان الصدوق والطوسي بإسنادهما: عن سليمان بن مهران، عن الإمام الصّادق قال: «مَعاشِرَ الشِّيعَةِ، كونوا لنا زَيناً ولا تكونوا علَينا شَيناً، قولوا لِلناسِ حُسناً، واحفَظُوا ألسِنَتَكُم، وكُفُّوها عنِ الفُضولِ وقَبيحِ القَولِ».

في هذا النص الوارد عن الإمام الصادق نقرأ خمس وصايا مهمة، وهي:

1. كونوا لنا زَيناً ولا تكونوا علَينا شَيناً:

في هذا المقطع من وصيته المهمة يشير الإمام الصادق إلى أهمية أن تنعكس أخلاقيات الإسلام وسيرة أهل البيت الأخلاقية على سلوكيات الإنسان المؤمن وتعامله مع الناس؛ بحيث يكون زيناً في تدينه، وزيناً في أخلاقه، وزيناً في تعامله، وزيناً في كلامه، وزيناً في أدبه؛ وبهذا يكون ملتزماً بوصية الإمام الصادق ، ويكون مقتدياً بإمامه، وسائراً على نهجه، وينظر إليه الآخرون باحترام وتقدير مما يعطي صورة حسنة عن أخلاقيات وآداب أتباع مدرسة أهل البيت الأطهار .

وقد أشار الإمام الصادق إلى أهمية التعامل الحسن مع الآخرين، والالتزام بأخلاق المعاشرة وآدابها، فهذا أمر مطلوب وراجح في نفسه، كما أنه ينعكس إيجابياً على نظرة الآخرين لأتباع مدرسة أهل البيت الأطهار، مما قد يدفعهم للتأثر الإيجابي بمنهجهم وسيرتهم، فيسيرون على نهجهم، ويقتدون بهم، فقد روى الكليني بسند صحيح: عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى‏، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ زَيْدٍ الشَّحَّامِ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اقْرَأْ عَلى‏ مَنْ تَرى‏ أَنَّهُ يُطِيعُنِي‏ مِنْهُمْ وَيَأْخُذُ بِقَوْلِيَ السَّلَامَ، وَأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْوَرَعِ فِي دِينِكُمْ، وَالِاجْتِهَادِ لِلَّهِ، وَصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَطُولِ السُّجُودِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ؛ فَبِهَذَا جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، أَدُّوا الْأَمَانَةَ إِلى‏ مَنِ ائْتَمَنَكُمْ عَلَيْهَا، بَرّاً أَوْ فَاجِراً، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ كَانَ‏ يَأْمُرُ بِأَدَاءِ الْخَيْطِ، وَالْمِخْيَطِ؛ صِلُوا عَشَائِرَكُمْ، وَاشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ‏، وَعُودُوا مَرْضَاهُمْ‏، وَأَدُّوا حُقُوقَهُمْ؛ فَإِنَ‏ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِهِ، وَصَدَقَ الْحَدِيثَ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَحَسُنَ خُلُقُهُ مَعَ النَّاسِ، قِيلَ: هذَا جَعْفَرِيٌّ، فَيَسُرُّنِي‏ ذلِكَ، وَيَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْهُ السُّرُورُ، وَ قِيلَ: هذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ؛ وَإِذَا كَانَ عَلى‏ غَيْرِ ذلِكَ، دَخَلَ عَلَيَّ بَلَاؤُهُ وَعَارُهُ، وَ قِيلَ: هذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ؛ فَوَ اللَّهِ‏، لَحَدَّثَنِي أَبِي عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ فِي الْقَبِيلَةِ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَكُونُ زَيْنَهَا: آدَاهُمْ لِلْأَمَانَةِ، وَأَقْضَاهُمْ لِلْحُقُوقِ، وَأَصْدَقَهُمْ لِلْحَدِيثِ، إِلَيْهِ‏ وَصَايَاهُمْ‏ وَوَدَائِعُهُمْ، تُسْأَلُ‏ الْعَشِيرَةُ عَنْهُ‏، فَتَقُولُ‏: مَنْ مِثْلُ فُلَانٍ؟ إِنَّهُ لَآدَانَا لِلْأَمَانَةِ، وَأَصْدَقُنَا لِلْحَدِيثِ».

وفي هذه الوصية تأكيد على أهمية الالتزام بآداب وأخلاق الإسلام في العشرة والمعاشرة، والتعامل الحسن مع أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى؛ والالتزام معهم بأخلاقيات الإسلام كأداء الأمانة، وصدق الحديث، وحسن الخلق، وأداء الحقوق، وعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وحسن الجوار وغير ذلك من الوصايا والتعليمات القيمة التي أوصى بها الإمام الصادق حتى يكون الشيعة زينأ لمدرسة أهل البيت الأطهار.

ولا شيء كحسن الخلق يجلب المحبة والمودة بين الناس، فقد روي عن الإمام الصادق أنه قال: «طَلَبتُ صُحبَةَ النّاسِ فَوَجَدتُها في حُسنِ الخُلُقِ»، وعنه قال: «حُسنُ الخُلُقِ مَجلَبَةٌ لِلمَوَدَّةِ».

وهذا يؤكد على أهمية التعامل الأخلاقي مع الناس؛ لأنه أساس البناء القيمي والتربوي والأخلاقي لأي مجتمع ناهض، وأن الاختلاف في قضايا ثقافية أو فكرية أو مذهبية أو دينية ليس مبرراً للتعامل الشائن مع الآخرين.

إن التعامل الحسن مع الناس، والالتزام بأخلاق المعاشرة وآدابها، أمر مطلوب وراجح في نفسه عقلاً وشرعاً، وأما التعامل الشائن والسيء فأمر قبيح في نفسه ومنهي عنه عقلاً وشرعاً.

ولذا نهى الإمام الصادق عن التعامل الشائن مع الناس، وأوصى شيعته وأصحابه بأن يكونوا زيناً لهم وليس شيناً عليهم، وقد روي عنه أنه قال: «إيّاكُم أن تَعمَلوا عَمَلًا يُعَيِّرونا بِهِ، فَإِنَّ وَلَدَ السَّوءِ يُعَيَّرُ والِدُهُ بِعَمَلِهِ، كونوا لِمَنِ انقَطَعتُم إلَيهِ زَيناً ولا تَكونوا عَلَيهِ شَيناً».

ومعنى الشين في اللغة: هو العَيْبُ والقُبْحُ، فكل قول أو فعل معيب أو قبيح فهو شين لصاحبه، بخلاف الزين الذي هو كل شيء حسن أو جميل.

ومن مصاديق الشين هو عدم الورع عن محارم الله، التعامل السيئ مع الآخرين، سوء الأخلاق، عدم أداء الأمانة، الكذب في القول والفعل، خلف الوعد، جار السوء، عدم أداء الحقوق لأصحابها، الغش والتدليس والاحتيال، السلوكيات الخاطئة في مناسبات أفراح أهل البيت كممارسة التفحيط، عدم التزام المرأة المؤمنة بالحجاب الشرعي... وغيرها من مصاديق الشين، ومثل هذه السلوكيات الشاذة والأخلاق السيئة تنعكس سلباً على النظرة لأتباع مدرسة أهل البيت الأطهار، وهو ما يؤلم قلب الإمام .

وقد دعا الإمام إلى تحبيب الناس إلى أهل البيت بحسن الأخلاق وجمال الأفعال، فقد روي عنه أنه قال: «كونوا لَنا زَيناً ولا تَكونوا عَلَينا شَيناً، حِبِّبونا إلَى الناس ولا تُبَغِّضونا إلَيهِم، جُرّوا إلَينا كُلَّ مَوَدَّةٍ وَادفَعوا عَنّا كُلَّ قَبيحٍ، فَما قيلَ فينا مِن خَيرٍ فَنَحنُ أهلُهُ، وما قيلَ فينا مِن شَرٍّ فَوَاللَّهِ ما نَحنُ كَذلِكَ».

وأفضل وسيلة لتحبيب الناس إلى أهل البيت وجذبهم إلى الاقتداء بهم هو التحلي بالأخلاق الفاضلة، وفعل الخير، والتعامل الحسن مع الآخرين، والإحسان إليهم؛ فالناس تتأثر بما تراه من أفعال أكثر مما تتأثر بالكلام، ولذا روي عنه أنه قال: «كونوا دُعاةً لِلنّاسِ بِغَيرِ ألسِنَتِكُم، لِيَرَوا مِنكُمُ الوَرَعَ وَالاجتِهادَ وَالصَّلاةَ وَالخَيرَ، فَإِنَّ ذلِكَ داعِيَةٌ»، وعنه ‏ - لِلمُفَضَّلِ بنِ عُمَرَ - قال: «أي مَفَضَّلُ، قُل لِشيعَتِنا: كونوا دُعاةً إلَينا بِالكَفِّ عَن‏ مَحارِمِ اللَّهِ وَاجتِنابِ مَعاصيهِ وَاتِّباعِ رِضوانِ اللَّهِ، فَإِنَّهُم إذا كانوا كَذلِكَ كانَ النّاسُ إلَينا مُسارِعينَ».

وفي كتاب دعائم الإسلام: رُوينا عَن أبي عَبدِ اللَّهِ جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيهِ أنَّ نَفَراً أتَوهُ مِنَ الكوفَةِ مِن شيعَتِهِ... فَلَمّا حَضَرَهُمُ الانصِرافُ ووَدَّعوهُ قالَ لَهُ بَعضُهُم: أوصِنا يَابنَ رَسولِ اللَّهِ، فَقالَ: «اُوصيكُم بِتَقوَى اللَّهِ، وَالعَمَلِ بِطاعَتِهِ، وَاجتِنابِ مَعاصيهِ، وأداءِ الأَمانَةِ لِمَنِ ائتَمَنَكُم، وحُسنِ الصَّحابَةِ لِمَن صَحِبتُموهُ، وأن تَكونوا لَنا دُعاةً صامِتينَ».

فَقالوا: يَا بنَ رَسولِ اللَّهِ، وكَيفَ نَدعوا إلَيكُم ونَحنُ صُموتٌ؟

قالَ: «تَعمَلونَ ما أمَرناكُم بِهِ مِنَ العَمَلِ بِطاعَةِ اللَّهِ، وتَتَناهَونَ عَمّا نَهَيناكُم عَنهُ مِنِ ارتِكابِ مَحارِمِ اللَّهِ، وتُعامِلونَ النّاسَ بِالصِّدقِ وَالعَدلِ، وتُؤَدّونَ الأَمانَةَ، وتَأمُرونَ بِالمَعروفِ، وتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ، ولا يَطَّلِعُ النّاسُ مِنكُم إلّا عَلى‏ خَيرٍ، فَإِذا رَأَوا ما أنتُم عَلَيهِ قالوا: هؤُلاءِ الفُلانِيَةُ، رَحِمَ اللَّهُ فُلاناً، ما كانَ أحسَنَ ما يُؤَدِّبُ أصحابَهُ، وعَلِموا فَضلَ ما كانَ عِندَنا، فَسارَعوا إلَيهِ.

أشهَدُ عَلى‏ أبي مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ رِضوانُ اللَّهِ عَلَيهِ ورَحمَتُهُ وبَرَكاتُهُ، لَقَد سَمِعتُهُ يَقولُ: كانَ أولِياؤُنا وشيعَتُنا فيما مَضى‏ خَيرُ مَن كانوا فيهِ، إن كانَ إمامُ مَسجِدٍ فِي الحَيِّ كانَ مِنهُم، وإن كانَ مُؤَذِّنٌ فِي القَبيلَةِ كانَ مِنهُم، وإن كان صاحِبُ وَديعَةٍ كانَ مِنهُم، وإن كانَ صاحِبُ أمانَةٍ كانَ مِنهُم، وإن كانَ عالِمٌ مِنَ النّاسِ يَقصُدونَهُ لِدينِهِم ومَصالِحِ اُمورِهِم كانَ مِنهُم، فَكونوا أنتُم كَذلِكَ، حَبِّبونا إلَى‏ النّاسِ، ولا تُبَغِّضونا إلَيهِم».

2. قولوا لِلناسِ حُسناً:

من وصايا الإمام الصادق أيضاً: القول الحسن للناس، كما روي عنه: «قولوا لِلناسِ حُسناً»، في إشارة منه إلى قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ، وقد روي عنه في بيان معناها، قوله : «اتَّقُوا اللَّهَ، ولا تَحمِلُوا النّاسَ على‏ أكتافِكُم، إنَّ اللَّهَ يَقولُ في كتابِهِ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ».

وقد روي عن الإمام الباقر ‏ في تفسيره لنفس الآية المباركة: «قولوا للناسِ أحسَنَ ما تُحِبُّونَ أن يُقالَ فيكُم».

إن الكلام العذب، والقول الحسن، وفصاحة المنطق يؤثر إيجابياً في الناس، ويؤدي إلى كثرة الأصدقاء والأحبة، ولذا ورد عن الإمام علي أنه قال: «عَوِّدْ لِسانَكَ لِينَ الكلامِ وبَذلَ السَّلامِ، يَكثُرْ مُحِبُّوكَ وَيقِلَّ مُبغِضُوكَ»، وعنه قال: «مَن عَذُبَ لِسانُهُ كَثُرَ إخوانُهُ».

والكلام الحسن من عوامل النجاح والتوفيق لما روي عنه أنه قال: «مَن حَسُنَ كلامُهُ كانَ النُّجحُ أمامَهُ».

ومن مصاديق القول الحسن: الكلام بلباقة، استخدام الألفاظ الجميلة، مراعاة مشاعر الآخرين واحترامهم، وأما من يطعن في من يختلف معهم، ويلقي القول على عواهنه بلا ضوابط وبدون منطق، ويتلفظ بألفاظ جارحة ومؤذية؛ فضرره جسيم، وخطره عظيم.

وقد اعتبر الإمام الصادق أن عذوبة الكلام دليل على نضج العقل، لما وروي عنه أنه قال: «مَن عَذُبَ لِسانُهُ زكا عَقلُهُ».

كما أن الفصاحة في الكلام من علامات الكمال، لقوله : «ثلاثُ خِصالٍ مَن رُزِقَها كانَ كامِلًا: العَقلُ، والجَمالُ، والفَصاحةُ»، لأن الكلام الفصيح يعبر عن عقل رشيد، وله تأثير جاذب للقلوب، ولذا قيل: إن من البيان لسحرا.

3. واحفَظُوا ألسِنَتَكُم:

الوصية الثالثة من وصايا الإمام الصادق : حفظ اللسان عن الكلام بالباطل، والكلام البذيء، وكلام اللغو واللهو، وكلام الفحش والفاحش.

ومن مصاديق حفظ اللسان عدم الرد على الجهّال والسفلة، وعدم النزول إلى مستواهم الهابط، فيترفع المرء عنهم بعدم الجواب على لغوهم وبهتانهم، لما روي عن الإمام الصّادق في تفسير قولهِ تعالى‏: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ قال: «هُو أن يَتَقَوّلَ الرّجُلُ علَيكَ بالباطِلِ، أو يأتِيَكَ بما لَيسَ فيكَ، فتُعرِضَ عَنهُ للَّهِ».

وقد يأتي حفظ اللسان بمعنى الصمت في مقابل الكلام، لأن فيه السلامة والنجاة، لما روي عن رسول اللَّهِ ﷺ أنه قال: «سَلامَةُ الإنسانِ في حِفظِ اللِّسانِ»، وروي عن الإمام الصّادق أنه قال: «نَجاةُ المؤمنِ في حِفظِ لِسانِهِ».

وأما من يكثر من الكلام والثرثرة، ولا يحفظ لسانه فإنه قد يوقع نفسه في مشاكل عويصة، فربّ كلمة سلبت نعمة وجلبت نقمة، وقد روي عن أمير المؤمنين أنه قال: «كَم مِن إنسانٍ أهلَكَهُ لِسانٌ!»، وعنه قال: «رُبَّ كَلِمَةٍ سَلَبَت نِعمَةً، فاخزُنْ لِسانَكَ كَما تَخزُنُ ذَهَبَكَ وَوَرِقَكَ».

وقد يتكلم المرء بكلام ثم يندم على كلامه، لأنه يكتشف أنه لم يكن موفقاً فيه، فيصبح في وثاقه وأسيراً له، فقد ورد عن الإمام عليّ : «الكلامُ في وَثاقِكَ ما لم تَتَكلَّمْ بهِ، فإذا تَكَلَّمتَ بهِ صِرتَ في وَثاقِهِ، فَاخزُنْ لِسانَكَ كما تَخزُنُ ذَهَبَكَ ووَرِقَكَ، فَرُبَّ كَلِمَةٍ سَلَبَت نِعمَةً وجَلَبَت نِقمَةً»، وعنه قال: «احفَظْ لسانَكَ؛ فإنّ الكَلِمَةَ أسيرَةٌ في وَثاقِ الرجُلِ، فإن أطلَقَها صارَ أسيراً في وَثاقِها».

ومن الخزي أن يتجاهر الإنسان بالمعصية فيفضح نفسه بكلامه من باب التفاخر بارتكابه المعاصي، لما روي عن الإمام الصّادق أنه قال: «إذا أرادَ اللَّهُ بعَبدٍ خِزياً أجرى‏ فَضيحَتَهُ على‏ لِسانِهِ».

وللكلام آفات، وللصمت حسنات، فإذا كان المرء صامتاً يكتب محسناً، وأما إذا تكلم يكتب محسناً إذا أحسن كلامه، ويكتب مسيئاً إذا أساء كلامه، ولذا روي عن الإمام الصّادق أنه قال: «لا يَزالُ العَبدُ المؤمنُ يُكتَبُ مُحسِناً ما دامَ ساكِتاً، فإذا تَكَلَّمَ كُتِبَ مُحسِناً أو مُسِيئاً».

وفي الصمت السلامة، لما روي عن الإمام علي أنه قال: «في الصَّمتِ السَّلامَةُ مِن النَّدامَةِ، وتَلافيكَ ما فَرَطَ مِن صَمتِكَ أيسَرُ مِن إدراكِ فائدةِ ما فاتَ مِن مَنطِقِكَ، وحِفظُ ما في الوِعاءِ بِشَدِّ الوِكاءِ».

وإذا كان الكلام فيه راحة للروح، لأن طبيعة الإنسان يحب أن يتكلم، فإن السكوت فيه راحة للعقل، لما روي عن الإمام الصّادق : «النُّطقُ راحَةٌ للرُّوحِ، والسُّكوتُ راحَةٌ للعَقلِ».

4. وكُفُّوها عنِ الفُضولِ:

من آفات اللسان الفضول، وهو الكلام الزائد الذي لا فائدة فيه، والكلام فيما لا يعنيه، وقد أوصى الإمام الصادق بالكف عن كلام الفضول، وترك الكلام فيما لا يعنيه، وقد ورد عنه أنه قال: «مَن عَلِمَ مَوضِعَ كلامِهِ مِن عَمَلِهِ قَلَّ كلامُهُ فيما لا يَعنيهِ».

وقد ورد في روايات كثيرة ذم الكلام فيما لا يعنيه أو إظهار كل ما يعلمه، فقد روي عن الإمام الصادق أنه قال: «اسمَعُوا مِنّي كلاماً هُو خَيرٌ لَكُم مِن الدُّهمِ المُوقَفَةِ: لا يَتكلَّمْ أحدُكُم بما لا يَعنيهِ، وَليَدَعْ كثيراً مِن الكلامِ فيما يَعنيه حتّى‏ يَجِدَ له مَوضِعاً، فَرُبَّ مُتَكلِّمٍ في غيرِ مَوضِعِهِ جَنى‏ على‏ نفسِهِ بكلامِهِ». وأكدّ أمير المؤمنين أيضاً على ذلك بقوله: «لا تَتَكلَّمْ بكُلِّ ما تَعلَمُ، فَكَفى‏ بذلكَ جَهلًا»، وعنه قال: «مِن عَقلِ الرجُلِ أن لا يَتَكلَّمَ بجَميعِ ما أحاطَ بهِ عِلمُهُ».

وقد أوضح الإمام الصادق أن العالم لا يتكلم إلا بما فيه فائدة علمية أو عملية للناس، ولا يتكلم بفضول الكلام، لما روي عنه أنه قال: «العالِمُ لا يَتَكلَّمُ بالفُضولِ».

ومن كلام الفضول كثرة الإطراء والمدح، ومن الطريف ما رواه الإمام الصادق ، عن آبائه ، قال: جاءَ شاعِرٌ إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَسَأَلَهُ وأطراهُ، فَقالَ لِبَعضِ أصحابِهِ: «قُم مَعَهُ فَاقطَع لِسانَهُ».

فَخَرَجَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أقطَعُ لِسانَهُ؟!

قالَ: «إنَّما أمَرتُكَ أن تَقطَعَ لِسانَهُ بِالعَطاءِ».

فالرجل فهم أنه يقطع لسان الشاعر على وجه الحقيقة، بينما كان قصد رسول الله ﷺ قطع لسانه على وجه المجاز، والمراد به إعطاؤه المال ليوقفه عن كلام الإطراء والفضول، فبالإحسان والعطاء يقطع اللسان سواء عن كلام الفضول أو عن الإساءة والفحش في الكلام، ولذا روي عن الإمام علي أنه قال: «الإِحسانُ يَقطَعُ اللِّسانَ».

وعن عكرمة: إنَّ شاعِراً أتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يا بِلالُ، اقطَع عَنّي لِسانَهُ». فَأَعطاهُ أربَعينَ دِرهَماً وحُلَّةً.

قالَ: قَطَعتَ وَاللَّهِ لِساني، قَطَعتَ وَاللَّهِ لِساني.

5. وكُفُّوها عنِ... قَبيحِ القَولِ:

ختم الإمام الصادق وصاياه في هذا النص المتقدم في أول الكلام بالدعوة إلى الكف عن قبيح القول، وهو ما يعني تجنب الكلام الجارح والبذيء والفاحش، والتحلي بعفة اللسان، والتزين بطيب الكلام وأحسنه.

ومن مصاديق قبح القول: القول البذيء، القول الفاحش، القول الباطل، قول الزور، السب والشتم، وقد ورد التحذير عن ذلك في روايات متكاثرة، فقد روي عن رسول اللَّهِ ﷺ أنه قال: «إيّاكُم والفُحشَ؛ فإنّ اللَّهَ عَزَّ وجلَّ لا يُحِبُّ الفاحِشَ المُتَفَحِّشَ»، وعنه ﷺ قال: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الحَيِيَّ المُتَعَفِّفَ، ويُبغِضُ البَذِيَّ السائلَ المُلحِفَ».

وروى الإمامُ الصّادقُ عن آبائه ، قالَ: قالَ رَسولُ اللَّه ﷺ: «ألا اُخبِرُكُم بِأبعَدِكُم مِنّي شَبَهاً؟»

قالوا: بلى‏ يا رسولَ اللَّهِ.

قالَ: «الفاحِشُ المُتَفحِّشُ البَذي‏ءُ».

وعن الإمام الصادق قال: «إنَّ الحَياءَ وَالعَفافَ وَالعِيَّ - عِيَّ اللِّسانِ لا عِيَّ القَلبِ - مِنَ الإِيمانِ، وَالفُحشَ وَالبَذاءَ وَالسَّلاطَةَ مِنَ النِّفاقِ».

وعنه قال: «إذا قالَ المؤمنُ لأخيهِ: اُفٍّ! خَرَجَ مِن وَلايَتِهِ، وإذا قالَ: أنت عَدُوِّي كَفَرَ أحَدُهُما، ولا يَقبَلُ اللَّهُ مِن مؤمنٍ عَمَلًا وهو يُضمِرُ علَى المؤمِنِ سُوءاً».

ومن مصاديق قبح القول: السب والشتم، وقد نهي عنه لأنه يؤدي إلى العداوات والخصومات والأحقاد بين الناس، لما روي عن رسول اللَّهِ ﷺ أنه قال: «لا تَسُبُّوا الناسَ فَتَكتَسِبُوا العَداوةَ بَينَهُم».

ومن خاف الناس لسانه لقبحه وبذاءته فهو يسير على الطريق الخطأ، لما روي عن الإمام الصادق : «مَن خافَ الناسُ لِسانَهُ فهُو في النارِ».

ومن علامات اتباع الشيطان عدم المبالاة بما يقول أو يقال فيه وعنه، لما روي عنه أنه قال: ««إنّ» مِن علاماتِ شِركِ الشَّيطانِ الذي لا يُشَكُّ فيهِ أن يكونَ فَحّاشاً، لايُبالي ما قالَ ولا ماقيلَ فيهِ».

بهذه الوصايا الذهبية الخمس التي أوصى بها الإمام الصادق في هذا الحديث الشريف أوضح الإمام ما ينبغي للمؤمنين الالتزام به في تعاملهم مع الآخرين من أخلاق حسنة وأفعال جميلة، حتى يكونوا زيناً لأهل البيت بحيث يحببوا الناس إليهم، كي يقتدوا بهم، ويسيروا على نهجهم، ويتأثروا بسيرتهم المباركة.