آخر تحديث: 12 / 5 / 2024م - 10:55 م

الخليل بن أحمد الفراهيدي عبقرية فريدة في تاريخ اللغة العربية

معجم العين هو أول معجم منسق للغة العربية، قام بكتابته الخليل بن أحمد الفراهيدي وأتمه ورتبه الليث بن المظفر الليثي الكناني ويعتمد في ترتيبه على مخارج الحروف من أعمق نقطة في الحلق مرورا بحركات اللسان وحتى أطراف الشفتين، وبذلك يكون أول حروفه هو العين وأخرها هو الميم، ثم تتبعهم حروف العلة الجوفية «و، ي، أ».

تنسب إليه كتب أخرى هي: معاني الحروف، جملة آلات العرب، العوامل، النقط والشكل، النغم.

قال أبو أحمد التوزي: ”اجتمع أدباء من كل أفق بمكة فجعل أهل كل بلد يرفعون علماءهم، ويقدمونهم حتى جرى ذكر الخليل بن أحمد الفراهيدي فلم يبق أحد إلا قال: الخليل أذكى العرب.“

وهذا هو حمزة بن الحسن الأصفهاني في كتاب التنبيه يقول: وبعد: ”فإن دولة الإسلام لم تخرج أبدع للعلوم التي لم يكن لها عند علماء العرب أصول من الخليل، وليس على ذلك برهان أوضح من علم العروض الذي لا عن حكيم أخذه، ولا عن مثال تقدمه احتذاه، إلى آخر كلامه المنقول في الأصل.“

ويقول أبو بكر الزبيدي في أول كتاب استدراك الغلط: ”والخليل بن أحمد أوحد العصر، وقريع الدهر، وجهبذ الأمة، وأستاذ أهل الفطنة، الذي لم ير نظيره، ولا أعرف في الدنيا عديله، إلى أن قال: ثم ألف على مذهب الاختراع وسبيل الإبداع كتاب الفرش والمثال في العروض، فحصر بذلك جميع أوزان الشعر وضم كل شيء منه إلى حيزه، وألحقه بشكله، وأقام ذلك عن دوائر أعجزت الأذهان وبهرت الفطن وغمرت الألباب.“

ينسب الخليل إلى فرهود بن زيد بن شبابة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عدثان بن عبدالله بن زهران بن كعب بن الحارث.. الفُرهُ، والفُرهود في اللغة هو ولد الأسد، والجمع فراهيد.

وقد جمع الخليل بن أحمد إلى سعة علمه ذلك الخلق الإسلامي الرفيع:

سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب
وإن كبرت منه علي الجرائم

وما الناس إلا واحد من ثلاثة
شريف ومشروف ومثل مقاوم

فأما الذي فوقي فأعرف فضله
وأتبع فيه الحق والحق لازم

وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا
تفضلت إن الفضل بالعز حاكم

وأما الذي دوني فإن قال صنت عن
إجابته عرضي وإن لام لائم

هذا ما جاء على لسانه في احترامه للآخرين، وكما يهمنا معرفة عظيم العطاء الذي قدمه هذا العلم للعربية، أرى أن من الأهمية بمكانٍ عظيم التوقف عند هذا الجانب الخلقي لهذا الإنسان العظيم، ومن تواضع لله رفعه، فللنظر إلى مدى قد رفع الله تعالى هذا الإنسان.

هذا الجانب الخلقي الرفيع الذي كانت تزدان به شخصية الخليل بن أحمد هو مادفع عالم الحديث الشهير سفيان الثوري للقول:

”من أحب أن ينظر إلى رجل خلق من الذهب والمسك، فلينظر إلى الخليل بن أحمد.“

وكان الخليل ظريف المعاشرة، فلقد روى الأصمعي: دخلت على الخليل بن أحمد وهو جالس على حصير صغير، فقال: اجلس، قلت: أضيق عليك!! قال: الدنيا بأسرها لا تسع متباغضين، وإن شبرا في شبر ليسع متحابين.

ومن السمات البارزة في حياة الخليل الفراهيدي هو ذلك الاحترام الذي كان يوليه لطلبته، والذين من أبرزهم عالم النحو سيبويه، فقد كان سيبيويه طمحوحاً جاداً مثابراً، وقد لمس الخليل هذه الناحية في سيبويه فأولاه عناية خاصة، وكان يخصه بجلسات علم خاصة، ولعل البعض يتذكر القول الشهير الذي كان يردده الخليل عند رؤيته لسيبويه:

”مرحبا بالزائر الذي لا يمل“

ولا تفوتني الإشارة ”وكما قيل إن «الخليل» دعا وهو في مكة أن يرزق علماً لم يسبقه إليه أحد، ولا يؤخذ إلا عنه فلما رجع من حجه، فتح عليه بعلم العروض.“

ففي ذلك بيان في ارتباط الإنسان بالله تعالى، وأن أي فضل يحصل عليه الإنسان فمنه تعالت أسماؤه، فألطافه كثيرة، والعلم نور يقذفه في قلب من يشاء من عباده، ولله المنة من قبل ومن بعد.

كان الخليل بن أحمد من الحريصين جدا على استثمار الوقت والاستفادة منه، وفي ما حققه للعربية شاهد على ذلك، ويروى عنه قوله: أثقل الساعات عليّ ساعة آكل فيها.

حيث أنه في تلك الساعة سينصرف عن طلب العلم، هذا مع معرفتنا بأن ساعة الأكل لديه إنما هي لكسب قوة تدفعه لاكتساب جوانب من العلم، أو إفادة أناس آخرين، فقد كان الخليل بن أحمد حريصاً كل الحرص على استثمار الوقت.

النقطة الأخرى التي يهمني ذكرها، أن الخليل كان يمتلك حساً اجتماعياً، وكان شعور الانتماء إلى المجتمع قويا لديه، وكشاهد على ذلك أسوق لكم هذه القصة. في سنة 175 هجري دخل السوق على عادته، فوجد جارية تتخاصم مع بقال، وهي تطالبه بدراهم أخذتها منه بمغالطته إياه على حساب بينهما، وفي أثناء ذلك أخذ عقل الخليل بالتفكير، وفكر بشيء لم يكن وقتها إذ ذاك ألا وهو جدول الضرب، وأثناء استغراقه بالتفكير وهو في طريقه إلى المسجد، اتجهت قدماه من غير شعور إلى سارية من سواري المسجد، فاصطدمت رجله ببيوت من الخشب أحاطت بالسارية - يستعملها الناس لوضع نعالهم - فاختل توازنه، واصطدم رأسه بالسارية، فوقع عليها ثم انقلب على ظهره، فمات بعدها.

من هذه الواقعة نستجلي درساً هاماً في كيف أن عبقري اللغة العربية لم يتوقف عند هذا الحد، بل أراد أن يفيد الناس في أشياء هي خارج اللغة العربية.

إن سيرة الخليل الفراهيدي غنية بالمواقف الأخلاقية العالية، فبالإضافة إلى ما ذكرت سابقاً أسوق لكم هذا الموقف الأخلاقي:

جاء الأصمعي إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي ليتعلم على يديه علم العروض، فلما رآه الخليل لا يحسن تعاطي هذا الفن، قال له يوما: كيف تقطع هذا البيت:

"إذا لم تستطع شيئا فدعه *** وجاوزه إلى ما تستطيع

ففهم الأصمعي أن ذلك إشارة إلى أن يترك الأصمعي هذا العلم.

نستفيد من هذا الموقف فن التعامل مع الآخرين بأسلوب يحفظ لهم كرامتهم، ولا يشعرهم بالامتهان، ففي هذه الحادثة، أرشد الخليل الفراهيدي الأصمعي بطريقة لم تجرح شعوره.

إن حياة الخليل زاخرة بالمعاني العظيمة في كل جوانبه، فلله در الخليل!.

اهتمام الخليل الفراهيدي بالقرآن الكريم:

كان العرب - في فترة ما قبل الإسلام، وصدر الإسلام - ينطقون الألفاظ العربية مضبوطة مشكولة بحسب سليقتهم من غير لحن أو خطأ. وكانت المصاحف الشريفة في العهد الإسلامي الأول مجردّة من الشكل، وباتساع الرقعة الإسلامية، والاتصال بالأعاجم دخل اللحن في الكلام، ونشأت الحاجة إلى وجود وسيلة لمنع حدوث اللحن في قراءة القرآن الكريم.

المراد من الشكل هو ما يعرض على الحرف، من حركة وسكون، سواء أكان ذلك في أول الكلمة أو وسطها أو آخرها.

وكان أبو الأسود الدؤلي هو أول من قام بعملية تشكيل القرآن، حيث ورد جاء في صبح الأعمى للقلقشندي ج 3/ 151: ”إن أول من نقَّطَ القرآن، ووضع العربية هو أبو الأسود الدؤلي من تلقين أمير المؤمنين علي، كرم الله وجهه“، إذ قام أبو الأسود بضبط العلامات الإعرابية في القرآن، واستعمل لذلك ما يفرّق فيه بين حالات الرفع والنصب والجرِّ بالتنوين وبدونه.

ولقد ابتكر أبو الأسود الدؤلي طريقة خاصة باستعمال النقط للحركات بصورة مميزة: عدداً، وموضعاً، ولوناً واختار لهذا الأمر كاتباً ماهراً قيل: إنه كان من بني عبد القيس، وقال له: ”خذ المصحف، وصنيعاً يخالف لون المواد، فإذا رأيتني فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة من أعلاه، وإن ضممتُ فمي فانقِط نقطةً بين يدي الحرف، وإن كسرتُ فاجعل النقطة من تحت الحرف، فإن أتبعت هذه الحركات غنَّة فانقط نقطتين، فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره“: الفهرست لابن النديم

وكان يحيى بن يعمر العدواني ونصر بن عاصم الليث، هما أول من نقطا المصحف الشريف؛ قال الأستاذ الزرقاني: ”أول من نقَّط المصحف هو يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم تلميذا أبي الأسود الدؤلي“: مناهل العرفان - الجزء الأول

ولقد قاما بوضع النقاط على الحروف المتشابهة أزواجاً وأفراداً «كالسين والشين، والفاء والقاف، والراء والزاء، والباء والتاء والثا، الخ»، وكان وضع النقاط على الحروف، وبذلك تميزت صور الحروف المتشابهة وصار لكل حرف صورة تغاير صورة غيره من الحروف.

وعندما ظهرت مشكلة اختلاط نقط الحركات التي وضعها أبو الأسود بنقط الحروف المتشابهة في الرسم والتي وضعها تلميذاه - يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم - استطاع الخليل بن أحمد الفراهيدي أن يبتدع شكلاً جديداً للحركات الإعرابية، فقد جعل الحركات حروفاً صغيرة بدل النقط وابتكر لكل حركة ما يناسبها في الشكل من الحرف فللضمة واو صغيرة فوق الحرف وللكسرة ياء مردفة تحت الحرف، وللفتحة ألف مائلة فوق الحرف ولم يقف إنجاز الفراهيدي عند هذا الحد، بل وفق إلى ابتكار علامات الهمز والتشديد والمد والإشمام.

فما أعظم ما منحه الخليل للغة، وما أولاه من عناية لأساس خلودها، القرآن الكريم.

استشاري طب أطفال وحساسية