آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 1:50 م

بين جيمين

محمد رضا نصر الله صحيفة الرياض

كنت في مكتب توفيق الحكيم، بجريدة الأهرام القاهرية منتصف السبعينات، حين دخلت امرأة برزة، تعتمر عمامة من قماش.. هشَّ لها الأديب المصري الكبير وبش، وكأنه التقط خيطاً خفياً يشدني إليها.. طفق يعرفني قائلاً:

أديب شاب من السعودية، لابد أنه قرأ ما كتبت عن أهل بيت النبوة..

وعلى الفور أدركتُ أنه يقدم لي الدكتورة عائشة بنت عبدالرحمن الملقبة ب ”بنت الشاطئ“.

ومن فورها راحت تسترجع شريط ذكرياتها، عند زيارتها المملكة سنة 1951م مع زوجها الشيخ أمين الخولي.. لتوقفه عند المحطة القطيفية.. تماماً كما فعلت في كتابها ”في أرض المعجزات“.

سألتني.. وكأنها تبحث عن صورة ضائعة، بددتها يد الزمان: لديكم شاعر فحل، ألقى أمامي قصيداً بارعاً، فيه تغنى بأمجاد بلادكم.. ساعدني على تذكر اسمه.. إنني لم أعد أسمع له ذكراً؟!

** قلت لها.. إنه عبدالله الجشي، هو الذي غنى لبلادي أجمل الشعر.. أتحبين سماع بعض مما رسخ من قصيدته تلك؟!

«»

قالت: أنشدنا.. ورحت أنغم:

هذي بلادي.. وهي ماضٍ عامر

مجداً وآتٍ بالمشيئة أَعمرُ

ألقى عصاه على فسيح جنانها

وعلى الجزائر عالَمٌ متحضرُ

وأقام فيها نهضة علميةً

بالعلم تسندها العقول وتنصرُ

وأذلَّت التيار تحت شراعها

فلها عليه تحكم وتأمرُ

وترى السفائن بالتوابل والحلِى

والعطر من بلد لآخر تمخرُ

شهدت مواني الهند خفق شراعها

فكأنها فوق المياه الأنسُرُ

وشواطئ النهرين لم يبرح بها

من ذكريات سفينها ما يسكرُ

.. قاطعتني بنت الشاطئ بالاستحسان تلو الاستحسان، ومالت على توفيق الحكيم تسترجع ما قالته في كتابها المذكور:

لقد أدهشني أن أجد في تلك البقعة المزوية عن الأضواء، هذا المستوى الرفيع من الشعر.. بل كم كانت مفاجأتي.. وأنا أرى شباباً يعرف تفاصيل في حياة مصر الأدبية، يكاد لا يعرفها عديد من أدبائنا!

** هزَّ توفيق الحكيم رأسه مستحسناً هو الآخر ما قرأت.. ودار بنا الحديث، حتى وقفنا عند زيارة الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري، مصر، في العام الذي زارت فيه بنت الشاطئ المملكة، لاجد نفسي أستدعي قصيدة الجواهري، الذي يبدو أن الجشي قد جاراها وهو يقف أمام تلميذه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وقد دعا الشاعر العراقي لزيارة مصر سنة 1951م، التي غناها على هذا النحو:

يا مصر تستبق الدهور وتعثِرُ

والنيل يَزءخَر والمسلة تزهرُ

وبنوك والتاريخ في قصبيهما

يتسابقان فيه فيصهرون ويُصهِرُ

والأرضُ يَنقِذُ من عَماية أهلها

نور يرف على ثراك ويُنشَرُ

هذا الصعيد مشت عليه كواكبٌ

للدهر مثقلة الخطى تتبخترُ

في كل مطرَّح وكل ثنيّةٍ

حجرُ بمجد العاملين معطرُ

.. نعم فالجشي لم ينكر يوماً أنه تلميذ الجواهري.. أليس هو القائل في حفل تكريمه بمسقط رأسه سنة 1946م:

يا شاعر النهرين لو لم يخصبا

أرضَ العراق أباطحاً ونجودا

لكفى نبوغك أن ينضِّر وجهها

حتى ترف زنابقاً ووعودا

أكبرت شعرك طارفاً وتليداً

وقرأت فيه المعجزَ المشهودا

.. وهكذا راح يذيع اسم الجشي هنا وهناك والناس يسألونني عنه.. حتى آليت على نفسي أن أحضره من مهجره.. ولتلك قصة إن شاء يقص شاعرنا فصولها، التي ابتدأت من شيخنا الراحل حمد الجاسر، وعزيزنا الدكتور إبراهيم العواجي، وصديقنا الأستاد عبدالعزيز السالم ”ابي عصام“، ولم تنته إلا بسماع أخته أم الرياض، تهاتفني في تلك الليلة الليلاء مبتهجة ممتنة، وأنا أتابع وصول شاعرنا إلى بيته، قائلة بلهجتها العراقية:

محمد رضا.. هسَّه أي هذه الساعة ذكرتني بجدك يرحمه الله.

** قبل أن يلقي الجشي عصا تسياره.. ها هو يستعيد لياقته الشعرية، بعد صمت استمر طويلاً.. فهل يجد غير الجواهري، يقوده إلى درب الشعر.. فهو في مغتربه المدلهم يحنُّ إلى سعفات القطيف، كما كان الجواهري يحن إلى هضبات العراق، في مقصورته التي نظمها سنة 1947م:

سلام على هضبات العراق

وشطيه والجرف والمنحنى

على النخل ذي السعفات الطوال

على سيد الشجر المقتنى

على الرطب الغض إذ يُجتلى

كوشي العروس وإذء يُجتنى

أما الجشي فهو يقول بعد سنوات طويلة:

سلام على هضبات الحجاز

تشمخ كالأنسر الطائره

ونجد وآرامها والصَّبا

وعزة أمجادها الغابره

سلام على سعفات القطيف

وشطآنها الحلوة الزاهره

لم أجد شاعراً سعودياً تغنى ببلاده، بمثل هذه الحرارة الشعرية، كما تغنى الجشي.. وغناؤه وطني صميم، نابعٌ من قلب مفتون بحب الوطن الواحد كله.. وإلا لِمَ أسمى ابنه ب ”قطيف“ وابنته ب ”يمامة“.. ولو رزق بنتاً كما كان يتمنى لأسماها ”طيبة“.

هكذا هو الجشي من قبل ومن بعد.