آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 10:36 م

شهر التوبة 20

محمد أحمد التاروتي *

تمثل ليلة القدر فرصة كبرى للمسلم، لاعادة برمجة حياته بشكل جذري، فهذه الليلة تعتبر استثنائية يصعب مقارنتها مع مختلف الليالي، ”خير من الف شهر“، وتمتاز بالبركة على العباد، مما يدفع المسلمين على الاجتهاد، في العبادة طوال ساعات تلك الليلة الفضيلة، خصوصا وان اعمال العباد تكتب في هذه الليلة للسنة القابلة ”فيها يفرق كل أمر حكيم“.

إخفاء ليلة القدر وتحريها في الليالي الوتر، بالعشر الاواخر من الشهر الفضيل، يدفع المسلم للحرص على احياء تلك الليالي، بهدف احراز احيائها في احدى تلك الليالي الفضيلة، خصوصا وان إخفاء تلك الليالي وعدم البوح بها، يشكل عنصرا أساسيا في زيادة الحرص، على تحري هذه الساعات الاستثنائية، من خلال التضرع لله، وأداء الصلوات، وقراءة الادعية المختلفة.

يحرص الصائمون في ليالي القدر على احيائها في دور العبادة، حيث تشهد المساجد ازدحاما شديدا للغاية، بحيث تبدأ مراسيم احياء هذه الليلة العظيمة منذ الساعات الأولى من المساء، وتستمر مراسم تلك العبادات حتى الساعات الأولى من الفجر، خصوصا وان تفويت هذه الفرصة تشكل خسارة كبرى، نظرا لاهميتها في تشكيل المسلك الحياتي للمسلم، ففي هذه الليلة يعتق الله العباد من نيران جهنم، الامر الذي يخلق ظاهرة سنوية غير اعتيادية في مسيرة الإنسان، ”قال الإمام علي بن أبي طالب : قال لي رسول الله ﷺ؛ يا علي أتدري ما معنى ليلة القدر؟ فقلت: لا يا رسول الله ﷺ. فقال: إن الله تبارك وتعالى قدّر فيها ما هو كائن إلى يوم القيامة، فكان فيما قدَّر عز وجل ولايتك وولاية الائمة من ولدك إلى يوم القيامة“.

الكرم الإلهي الكبير، لا يقتصر على تفضيل شهر رمضان المبارك على سائر الشهور، وانما اختصه بليلة القدر في هذا الشهر الفضيل، مما يزيد من فضيلة شهر الصيام لدى المسلم، نظرا لما يمثله من مكانة خاصة بخلاف بقية الأشهر، ”أن أفضل الشهور هو شهر رمضان، وأن قلب شهر رمضان ليلة القدر“، ففي هذه الليلة يعتق الله من نيران جهنم بقدر ما عتق في ليالي شهر رمضان، وبالتالي فان الصائم يتذلل إلى الله سبحانه وتعالى عبر احياء ليلة القدر ليكون ضمن قوافل العتقاء من النار في هذه الليلة المباركة.

احياء ليلة القدر بالعبادة، والتضرع إلى الخالق، ينعكس بصورة مباشرة على العلاقة مع الله، فهذه المراسم العبادية تعطي زحما معنويا على الصعيد الذاتي، بحيث تسهم في الارتقاء بالنفس، الامر الذي ينعكس بصورة مباشرة على الحالة الروحانية للصائم، خصوصا وان المسلم يواجه الكثير من المغريات التي تتركها اثرها على القلوب، مما يفرض التوجه نحو الخالق بنية صادقة، عبر الاستفادة من المحطات العبادية العديدة، إذ تمثل محطة ليلة القدر احدى المحطات العبادية الاستثنائية، التي تترك اثارها الإيجابية على القلوب بطريقة واضحة، فالزخم الكبير لمختلف العبادات خلال ليلة القدر، يحيط بالصائم من جوانب عديدة، بحيث يبرز على اشكال متعددة، بعضها ظاهرة للعيان بالوسط الاجتماعي، والبعض الاخر مرتبط بالعلاقة الذاتية، مع الخالق خلال المسيرة الحياتية.

شَهْرَ رَمَضَانَ: شَهْرَ الصِّيَامِ، وَشَهْرَ الاِسْلاَم، وَشَهْرَ الطَّهُورِ، وَشَهْرَ التَّمْحِيْصِ، وَشَهْرَ الْقِيَامِ، الَّذِي أُنْزِلَ فِيْهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ، وَبَيِّنَات مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقَانِ.

فَأَبَانَ فَضِيْلَتَهُ: عَلَى سَائِرِ الشُّهُورِ، بِمَا جَعَلَ لَهُ مِنَ الْحُرُمَاتِ الْمَوْفُورَةِ، وَالْفَضَائِلِ الْمَشْهُورَةِ، فَحَرَّمَ فِيْهِ ما أَحَلَّ فِي غَيْرِهِ إعْظَاماً، وَحَجَرَ فِيْهِ الْمَطَاعِمَ وَالْمَشَارِبَ إكْرَاماً، وَجَعَلَ لَهُ وَقْتاً بَيِّناً لاَ يُجِيزُ جَلَّ وَعَزَّ أَنْ يُقَدَّمَ قَبْلَهُ، وَلا يَقْبَلُ أَنْ يُؤَخَّرَ عَنْهُ.

ثُمَّ فَضَّلَ لَيْلَةً وَاحِدَةً: مِنْ لَيَالِيهِ، عَلَى لَيَالِي أَلْفِ شَهْر، وَسَمَّاهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر، سَلاَمٌ دَائِمُ الْبَرَكَةِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِمَا أَحْكَمَ مِنْ قَضَائِهِ.

كاتب صحفي