آخر تحديث: 25 / 4 / 2024م - 12:26 م

تحفة حسنية ‎‎

الصمت مختار الحكماء:

ورد عن الإمامُ الحسنُ المُجتبى : نِعمَ العونُ الصمتُ في مواطنَ كثيرةٍ وإن كنتَ فصيحًا» «بحار الأنوار ج 71 ص 280».

ما أجمل الوقوف التأملي مع هذه الحكمة النيرة من الإمام المجتبى والتي تعد قبسا ينير لنا دروب الحياة، فمن أهم مباديء إدارة الحياة نحو دفة التنظيم والإنتاجية هو اتخاذ الموقف والقرار المناسب، وذلك من خلال دراسة الكلمة الملقاة والموقف المراد اتخاذه قبل أن يقدم عليه وذلك بدراسة النتائج المترتبة عليه واحتمالاتها، يتأمل في نقاط القوة والإيجابية أو الضعف والسلبية لكل ما يصدر منه إن أراد أن يلازم سمت الحكمة والاستقامة، والإمام المجتبى يعلمنا أن الإحجام عن التقدم بفعل أو الصمت عن إلقاء الكلمة يعد موقفا مدروسا، وذلك إن رأى المرء أنه يترتب عليها آثار سلبية قد يندم عليها كثيرا، ولنضرب مثالا من حياتنا اليومية ونسلط الضوء عليه ألا وهو بداية الشرر لأي نقاشات ساخنة وحدوث الخصومات التي تحدث على المستوى الأسري والاجتماعي، وهو عامل التهور وإطلاق العنان للسان ليعقر من أمامه دون رقابة أو حساب، وذلك من خلال ركن العقل على جانب وتعطيله والتحرك بعمى خلف مشاعره المستفزة، والنتيجة لذلك أن يتحول المرء إلى بركان يرمي بحممه الكلامية في كل اتجاه بعيدا عن الهدفية، وإنما غرضه التشفي وتسجيل انتصار على الطرف الآخر دون التطلع والتأمل في النتائج الناجمة عن جرحه لمشاعر الآخرين وتوجيه الكلمات القاسية والمسيئة لهم، وكم كنا سننعم بالأمان الاجتماعي والهدوء النفسي لو تجنبنا مواطن الاضطراب والخلافات الناتجة عن عدم ترويض أنفسنا وجوارحنا على التوقف حينما يتطلب الموقف ذلك، تجنبا للوقوع في دائرة الخسائر فبعد انجلاء الموقف نجد أنفسنا نجلس على تلة الخراب وتدمير العلاقات الاجتماعية، هذا مع ملاحظة أن تكرار تلك المواقف الملتهبة سيحولنا في نهاية الأمر إلى أشخاص ضعاف يستفزهم أي موقف وكلمة ولا يمكنهم التحكم بأنفسهم وضبطها ولا تجنب مواضع الاستفزاز.

ونجد أن الإمام المجتبى يرجح لنا حالة الصمت كثيرا وينبغي الالتفات إلى أنها الأصل والأساس، وأن نطقنا بأي كلمة ينبغي أن يمر بفلترة عقلية ينتج عنها دراسة الدوافع والمنطلقات للدلو بها ومدى الفائدة التي يمكن أن تسجلها، إذ أن الكلام له آثاره السلبية ومنها أن البعض - وللأسف - يتخذ من الثرثرة مطية لتضييع الوقت، فهناك من لا يبرمج وقته ولا يشعر بقيمته ولا يوجد عنده من أهداف وغايات يعمل على تحقيقها، إذ أن العاقل الواعي تجده لا يسهم في كل جلسة بكلام ولا في كل واقعة بكلمة إن لم يجد لها نفعا، فهو أولى بوقته وعداد العمر يحسب عليه كل دقيقة كان يمكنه أن يستثمرها في طريق الخير والصلاح وصنع المعروف، وأما الإنسان الفارغ قد يضيع وقت الآخرين باقتحام عالمهم ومحاولة إدخالهم في حوارات عقيمة لا جدوى منها، والموقف المناسب هنا تجاهله والإصرار على التزام الصمت وإن سبب لذلك الشخص هذا الموقف إزعاجا، إذ علينا نشر ثقافة الخصوصية والتزام الصمت - كما أوصى إمامنا - أمام كل كلمة وموقف لا يوجد هناك من داع لنخوض فيه.

ويشير الإمام المجتبى إلى رجحان الصمت وتجنب الخوض في حوار أو واقعة وإن كنت صاحب أسلوب وذوق وفصاحة في الكلام، فلا ينبغي أن ينخدع المرء بامتلاكه هذه المهارة والقدرة فيكون ذلك مدعاة لمشاركته في كل ما هب ودب من الحوارات والجلسات، إذ أنه يرجح حينئذ الصمت وإن كنت فصيحا ما دمت وصلت إلى نتيجة مفادها أن كلمتك لن تقع في موقف التأثير والفائدة، فليس من العيب أن نحتفظ بكلمتنا ورؤيتنا إن وجدنا أنها ستلقى في محيط لا يستوعبها أو لا يتقبلها بسبب تزمت وتحجر أو غيره من الأسباب.

ومادا لو وجدنا أن مشاركتنا بكلمة سيجر علينا الويلات والخسائر، أفلا يحسن حينئذ أن نصمت ونعرض عن إلحاق الأذى بأنفسنا وتلويثها بأي لون من ألوان الملوثات الأخلاقية، فتارة يكون الكلام مع إنسان عاقل ومتدين ويركز فيه في النقد الإيجابي على الفكرة والموقف دون شخصنته أو التعرض لصاحبه بهمز أو لمز، ولكن - للأسف - أن الكثير من الجلسات والمحاورات تجلب الضرر الشديد والآثام كالغيبة والفتنة والسباب، وهذا لا يعني - بالطبع - الانزواء والاختفاء عن ساحة التوجيه الاجتماعي، وإنما هي ومضة في طريق المواقف وتبادل الرؤى بأن يكون خيارنا الأول الصمت، وإذا ما أردنا النطق فلننظر إلى تأثير الكلمة وجدواها دون أن تلحق بنا ضررا أخلاقيا من عجب أو قول السوء.