آخر تحديث: 3 / 12 / 2024م - 8:39 م

مساءلات أخلاقية حول قيم التشجيع الرياضي

أثير السادة *

المشجع الذي يقطع المسافات للجلوس على مدرجات التشجيع هو في قرارة نفسه قد اتخذ قرارا اخلاقيا بالوقوف خلف الفريق الذي ينتمي إليه، ونقول أخلاقي لأن قراره يتضمن تعبيرا عن التضامن والشعور بالمسئولية تجاه الدفاع عن سمعة الفريق وموقعه ضمن المنافسة الرياضية والتي تصبح صورة من صور المعارك الجماعية خاصة في المواجهات التي تتصف بالندية أو تحفل بالصراعات المجازية، بمعنى تلبس الرياضي بعناوين أخرى، قد تكون اجتماعية أو ثقافية أو سياسية حتى.

هذه اللحظة التي يتأرجح فيها المشجع أخلاقيا، ما بين تقديم الدعم اللا مشروط للفريق، وبين الرغبة في طرد حظوظ الفريق الآخر في الفوز والانتصار، بنحو يحيله إلى مدافع ومهاجم في ذات الوقت، ضمن لغة جسدية وسردية وطقوس جماعية منذورة للتأثير في نتيجة المباراة، أو هكذا يظن، هي لا تخلو من سلوكيات وعبارات تحول هذا القلق الأخلاقي الباعث على الحماسة في التشجيع، إلى تصرفات خارجة عن القواعد الأخلاقية، لأن القيم الأخلاقية لا تجد لها ترجمانا صريحا بالضرورة في ذروة الحدث والصراع داخل الملعب..فالمشجع غالبا لا ينشغل بالاختيارات الأخلاقية أثناء التشجيع، بقدر انشغاله بالعمل على مجابهة الجمهور الآخر كخصم وند في المباراة، ونثر المزيد من المشاعر الساخنة في فضاء الملعب.

التعصب هو المهيمن في صور التشجيع القائمة، والفارق بين مشهد وآخر هو في الدرجة لا في النوع، وهذا ما يجعل من التعامل مع أخلاقيات التشجيع محفوفا بقدر كبير من الشكوك في جدواها وقابليتها للتحقق، فحتى الحد الأدنى من المطالبة باحترام الخصوم يجري تأجيله في لحظة البحث عن أسباب الفوز وتعزيزها، يصبح ما هو ضروري مجرد أمر هامشي لحظتها، لأن الهياج الجماعي ببساطة يملك قابلية تدوير الأسئلة الأخلاقية وترحيلها..الجمهور يريد لفريق الانتصار مهما كان الثمن، ويريد الاحتفال بعدها في صور كثيفة لا يراد لها أن تتموضع على مقياس المثاليات الأخلاقية..

سيرسم جمهور كل فريق الكثير من الهالات المضيئة حول فريقه وامتيازاته، وليس ثمة قوة رافعة لهذا الفريق أكثر من الأغاني والأهازيج والسرديات التي تحفظ له موقعه في المنافسة وذاكرة الرياضة عموما، سيجري توظيف مجازات اللغة في ذلك، لاستدمجاد الخيال بالواقع، والأحلام بالحقيقة، ولجعلها أحرازا مذخرة لانتصارات قادمة، غير أن الصراعات الرياضية لا تأتي خالصة، بمعنى التجرد من ترسبات الواقع الاجتماعي والثقافي، لذلك سنجد صورا من التعصب مستنسخة من تحيزات اجتماعية وثقافية قائمة، أي أن لها ارتباطا وثيقا بارتباكات العلاقة مع الآخر، الثقافي أو الاجتماعي أو الجغرافي.

لقد جرت العادة اليوم أن يجرد كل جمهور خطايا الجمهور الآخر في خاتمة كل مباراة، وسيبحث الفريق الخاسر عن انتصار أخلاقي في الحد الأدنى ليكتب للفريق الآخر هزيمة محتملة على هامش الحدث، وفي مباراة النور والخليج الأخيرة قدم جمهور النور عبر منصات التواصل شواهد على أهازيج تبخس من حق المكان الذي ينتمي إليه هذا الجمهور، وتنشغل في تقزيم ناسه، كطريقة للاحتفال بانتصار عريض ندر حدوثه في السنوات الأخيرة..

هذه المرافعات الأخلاقية لا يمكن إهمالها، فهي دالة على غياب الحسابات الأخلاقية في لغة الجمهور، هنالك استنساخ فج لأهازيج وعبارات تؤسس لحالات خصومة حادة في المشهد الكروي، وتفتح لغة التشجيع على نيران التعصب التي لا ترتوي إلا ببلاغة التحقير والانتقاص من الآخر..انتقلت شعارات الجماهير من التشفير إلى التصريح المباشر عن الشروخ الاجتماعية التي يجري تغطيتها أحيانا في صورة تصريحات ومبادرات، قدرها الفشل في تطويق الانفلات في أشكال التعصب الجماهيري.

لا أحد على الأرض في حقيقة الأمر مشغول بأن يكون مدرسة للأخلاق على مستوى التشجيع، الكل يتنازع حول وصف مدرسة كرة اليد، الوصف الأكثر استهلاكا في هذا المشهد الرياضي، إلا أن الانحراف في قيم التشجيع هو السائد اليوم، والدعوة للهدوء التي تسبق كل مواجهة ساخنة تصبح مجرد محاولات اعتباطية إذا كان الجمهور عينه غير معني بالالتزام بها على مستوى الممارسة، والسبب أن هنالك من يذهب لمدرجات التشجيع لا لمؤزارة فريقه بل لتدمير صورة الفريق الآخر والنيل منه وتكثيف الكلام حوله.