آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 12:12 م

الاستعداد للسفر الأخروي

ورد عن أمير المؤمنين : واعلموا أن أمامكم طريقا ذا مسافة بعيدة ومشقة شديدة» «نهج البلاغة: خطب الإمام علي ج 3 ص 46».

يتحدث أمير المؤمنين عن عمر الإنسان وما هو موصله إليه بعد انقطاع الأنفاس وحلول المنية، فلا يعيشن المرء وهم الخلود فيعمل ما يحلو له وما يشاء يرتكب ويفعل وكأنه غير مفارق ما التصق به من أهل ودور ومصادر أنس، فما إن يولد الإنسان إلا ويبدأ عداد العمر في تعداد لحظات وساعات العمر المحدد فهو في تناقص حتى يبلغ منتهاه، هذه الحقيقة مع وضوحها ولكن الانشغال بملذات الدنيا وحطامها الزائل يغيبها عن الفكر الواعي، إذ لو كان الرحيل حقيقة راسخة وحاضرة في فكر وفعل الإنسان لتعامل وفقها من جهة التقرب من الله تعالى والتنزه عن المحرمات، ولكن الشيطان الرجيم ينفخ في أنفسنا حتى نصل درجة التضخم وصولا للتأليه، فنتعامل بمنطق القوة والاقتدار ونزع رداء الخوف من العقوبات الإلهية، فضلا عن تعامله مع الآخرين من منطلق الأنانية والنرجسية والتي تكون إفرازاتها تجاهل هذا والدخول في خصومة مع ذاك.

أمير المؤمنين يؤكد على حمل الزاد الإيماني والأخلاقي والروحي ويتعامل المرء كما أنه على سفر تماما، فالواحد منا له تجهيزاته واستعداداته للسفر وأهمها تجهيز المستلزمات التي يحتاجها ويحذر من نسيان شيء منها، وهذه الدنيا ما هي إلا سفر للآخرة لا بد من الاستعداد له جيدا بما يطابق واقعه وحقيقته، ولذا أمير المؤمنين يؤكد على إدراك وفهم يوم الحساب وما يمر فيه المرء من عقبات كؤودة وأهوال تشيب لها الأطفال الرضع، ففي حياتنا العملية عندما نواجه اختبارا مدرسيا في مادة معينة فما يميز المجد وغيره هو استيعابه للمادة والاجتهاد في المذاكرة، وعلى مستوى المواد الدراسية تتباين فهناك بعض المواد العملية كمادة الرياضيات في احتياجها لجهد كبير لا تقارن أبدا بمادة حفظ مثلا، وما نحن فيه هو المستقبل الحقيقي ألا وهو الرصيد الأخروي والذي يبنى على ما قدم المرء في دنياه، فهناك من عاش حياة الترف واللا مبالاة والتفلت حتى جاءته سكرة الموت وهم غافلون، وهناك من شد الهمة واغتنم أوقاته وطوع نفسه وجهوده لتكون كلها قربة إلى الله تعالى.

والعبادة مفهوم شامل لكل ما يصدر من الإنسان من قول أو فعل ولا يقتصر على ما هو متصور من صلاة وصوم وصدقة وغيرها، فالعبادة حاضرة في جميع جوانب حياتنا الثقافية والاجتماعية والأخلاقية، فتلك الجلسات المفيدة والمتنوعة التي تحمل معلومات قيمة وصحيحة تشكل لبنة في رحلة النضج الفكري والزاد المعرفي، كما أن التعامل الراقي مع الآخرين والذي يساعد في نشر روح الاحترام والمودة والتسامح بين الناس من أفضل القرب الإلهية، فللأسف اليوم نجد تسريبا كبيرا جدا في ميزان أعمالنا من خلال الكراهيات والخصومات والمناكفات لأسباب لا قيمة لها، فما نكسبه من ثواب صلاة الليل مثلا أو الصدقة أو الصوم المستحب لا يعادل الوزر الكبير لكلمة مسيئة لأحد أو غيبة أو نميمة قد تهدم أركان صحائف أعمالنا، فمن فهم حقيقة الآخرة هل يمكنه أن يحتطب على ظهره الأوزار والآثام، ودون أن تحدثه نفسه بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى تجنبا للعذاب الأخروي الأليم؟!

وأهم الأمور التي تعين المرء على سفره الطويل والشاق تهذيب نفسه ورقابتها ومحاسبتها على كل ما يصدر منها بشكل مستمر، فصدور الخطأ والتقصير وارد والمهم هو معالجته وتصحيحه قبل أن يتحول إلى سلوك سيئ ملازم، والاستغفار له موضعه عندما ينشأ من ندم وتحسر على تلك اللحظات التي ضعفت فيها نفسه وانساق كالأعمى خلف صوت الشيطان وقارف المعصية.

وتعبير الإمام عن السفر الأخروي بأنه طويل وشاق فيه إشارة إلى مجاهدة النفس وحبسها عن طريق الذنوب والاستلذاذ بالشهوات المحرمة، فهو طريق لم يفرش بالورود والرياحين وإنما هو طريق يتخلله المتاعب والعراقيل والصعوبات، فإذا كان صاحب إرادة قوية نهض مجددا وأصلح ما أفسده دون أن يتسلل له اليأس من رحمة الله تعالى، وأمامنا القدوة الحسنة وهم أولياء الله تعالى اللذين طلقوا الدنيا وزهدوا في متاعها الزائل، وأقبلوا على محراب المناجاة والطاعة وعيونهم تنهمر بالدموع عندما يذكرون عقبات يوم القيامة وأهواله، فهلا سرنا على نهجهم التربوي للنفس وابتعدنا عن المفسدات الأخلاقية؟!

?