آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 9:52 ص

الكلمة الطيبة.. أصل ثابت، وفرع نابت.. حَدَثٌ وحَدِيْثٌ ”40“

عبد الله أمان

عَادَةً مَا تُصَاغُ وتُبَثُّ، وتُقرَأُ شَفرَةُ الكلمة المَلفوظَة، ببِضعةِ حُروفٍ مُترادِفةٍ مُتناسِقةٍ مَفهومةٍ، ضِمنَ مُحيطِ إطارِ مُعجَمِ لُغةٍ عَصرِيةٍ مَنطُوقَةٍ مُحدّدَةٍ، يَصدّرها جِهاز النطق الذاتي، بميكَانيكِيةِ أسرَار التجهِيزِ الربّاني المُميّز؛ ليَسرِي، بطَلاقةٍ ولَطافةٍ، حَثِيث زَحْفِ الذبذَباتِ المُتردِّدَةِ؛ لتصلَ - في حِينها - إلى طَبلةِ الأُذُن؛ ليُرسِلَها العَصبُ السمعِي المُستقبِل الناقِل، مُجدّدًا إلى خَلايا الدّماغ؛ ويَتمّ هناك تَحلِيلها، و”فَلترتها“ وفَكّ خُيوطِ رُموزِها؛ لتُعيدها شَبكةُ الأَعصَاب المُخِية المُرسِلة ثانِيةً، مُصَدَّرَةً بفَحوَى رِسَالةِ شَفرتِها المَقرُوءة الجدِيدة، إلى مُستقَرّ مَراكز مِيكانِيكِية الجهاز الأدَائي الحَركِي؛ لتنفيذِ أمرٍ مُحدّدِ الصّياغة، ومُقَنّنِ الأَدَاء، بتَوافُقٍ عَصبِيٍ عَضلِيٍ؛ وهناك، في مُتّسع سَاحَاتِ الحَواسّ المُرهَفةِ، تُفهَم مَرامِي الكلمة المُرسَلَةِ، مِن شِفاه قَائلها... ومِثل ذلك، في مّجرى سِياق الكلمة الطيبة المَنطُوقة المُنطلِقة ذَاتِها، تُستَكْشَف بخِفّةٍ ودَمَاثةٍ؛ وتُستَجْلَي ببشَاشَةٍ وابتسَامَةٍ، خَفايَا أبعادِها ”المُؤنِسة“ ذائقة أحوَال ووَجيد أمزِجة مُستقبلِيها الحاضِرة؛ وتَستضِيفها آذانُهم الصاخِية اسْتِملاحًا، بعد أنْ تُودّعها عَضَلات الشّفاة المُتفتّقة، في مُنسكَبِ أَثيرِها الناقِل، وبَعد أَنْ تؤكّد فَحوَاهَا ارتِسام حَركاتِ أحْداقِ العين؛ وتَأنَسُ بانطلاقتِها الرشِيقة، أسَارِير الفؤاد هُنيهَةً، عِندئذٍ تَغمُر بوِعَاء بَلسمِها الشافي صَبَابةً، صِبَاغ الودّ الحَانِي، وتَتلقّفُها شَغَفًا، أحضَانُ المَحبةِ المُتبادَلةِ الترْبِ، بَين طيّاتِ تَلافِيفِ شِغَاف قُلُوب ثُلّة الشّخُوصِ المُتحَابةِ العَاشِقةِ؛ حِينئذٍ تَسمُو رُوح التقارُب الوَلهَى بينهم؛ وتُؤسَّس ”حَرَّةُ“ الفُؤادِ المُستهَامِ؛ وتُعطَّر أَنضَر اللحظَات الحَمِيمَة؛ وتتآلَف بِمعِيّتِها لَاحِقًا، أَعطَر وَشَائج عِشرَة الأنفُس التوأَم المُتراحِمة، في أَجملِ وأجلِّ جَنباتِ السكِينة؛ ويَسمُو ناصِعُ أُنْسِها المَنثُور طَوعًا، فَي رَكائز أَوتَادِ رِياضِ سُكنَى رُبُوعِها الوادعِة، أعطر عَبقِ ظِلال الطُمأنِينة الوَارِفة…وهناك يَتصَدَّرُ بامتِيازٍ مَلحوظٍ؛ ويَنبلِجُ بإتقانٍ وافتِنانٍ، شِعار أَسمَى دِيباجة مَنشُور مَقُولة المَثَلِ العَربي الثاقِب الصائِب، على رُؤوس الأَشهَاد: «مَنْ لَانَتْ كَلِمَتُهُ وَجَبَتْ مَحَبَّتُهُ».*

وإِنّهُ مِن المُتعارَفِ

عليه إجمَاعًا، عِند جُموعِ بَنِي البَشر قَاطِبةً، والمَجبُولَة آذانِهم على سَماعِه بإكرَامٍ واحترَامٍ؛ والمَطبُوعَة ذائقة أمزِجَتِهم عَلى قَبولِه بإحسانٍ وامتنانٍ؛ واستهنائه بجَميلِ إفضَال وإجلَال، بين ظَهرانِيهِم، جُملَةً وتَفصِيلًا: شُيُوع رُوحِ الكلمةِ الناقِدةِ النافِذةِ، الصادِرةِ مِن القلب، والنافِذة إِلى القلب؛ والتي تُصلِحُ بأَنيقِ طَلعةِ رَشاقتِها المَمشُوقَة؛ وحُسنِ صِياغةِ لَباقتِها الشّاخِصَة؛ ولَطيفِِ تَجانُس أَطيافِ مَعانِيها السامِقة، بَين أطراف نِزاعِ ثُلّةِ المُتخاصِمِين؛ وتَمتدّ ببَلسمِ ذُيُوعِها، وعَقَّارِ قَبولِها الذاتِيين؛ لتُلامِسَ دَمَاثةً، امتِداد رَاحَ أيديهِم المَبسوطَة للمُوادعَةِ، بَعد نَأيِ جَفوَةِ الخِصامِ! وهُنالك تَتجَلّى صِياغَة وصِناعَة قَوامِ بنت الشّفَة؛ ويَتوافَد للعِيان نَسج نَصلِها الطيّب، اللذين مَا فَتِئان يَسحرَان ويَجذِبان - بإعجابٍ وافتتانٍ - عَنان ذائقةِ عُقول وأَفئدَة الأَناسِي المُشرئبّة بأعناقِها المُمتدّة تطلّعًا؛ والشامِخة بأُنوفِها المرفُوعَة زَهوًا، في استضافةِ وقَرَاءِ تَدانِي مَحطّ قَوافِل مَحاسِن استِقبال الكلمات الطيبة البِنائية، بكامِل أمصَالِها الشافِيةِ البِكر، في مَراقيِ أجواء مُنتدياتِ التفاهُم؛ وفي جَنباتِ، ومَقاعِد، ومَجالِس إِِصلاحِ ذاتِ البينِ؛ وعَلى مَنَصَّات تَسوِية أعْقَدِ الخِلافَات الشائكة؛ وتَصفِيةِ ونَزعِ أصْعَبِ رؤوس حَسكِ الصّراعات المُؤلِمة المُتناحِرة…وهناك يَكونُ للكلمةِ الطيبةِ الأُمُ، ذرُور البلسَم الحاسِم؛ والرصَيد الحَيوِي الواقِع الساطِع، يَحترمُه ويُبجّلُه القاصِي والدانِي…!

وكَمَا لِعطرِ المِسكِ المَلكِي الفاخِر، نَفَاذ رَائحتِه الشذِية العَطِرة، فكَذلِك جَذبِ عَبق الكلمة الطيبة الهادِية، لَهَا رَصِيدٌ مُتنامٍ مِن الهداية؛ ومُدّخرٌ مِن مَناحِي الصدُود عَن سَقط الغِواية؛ وزَادٌ مِن مَوانِع الارتِماء في غَيَابة العَمَاية… وهذا مَا جَاء وبَشّر به أنبياء الله المُرسَلِين - مِن قُدسِيّةِ وأمَانَةِ وشَرَفِ رِسالَةَ الكلمةِ الإلهيةِ الهاديةِ المُنجِيةِ - عليهم أفضل الصّلاة، وأتمّ التسليم؛ ولَعلّ كلمة ”اقرأ“ أول مَا نزل على نبينا الكرِيم، مِن آي الذكرِ الحكِيم، وأُمِر بقِراءَة بضعِ فِقراتٍ تَدُلّ على تَجِلّةِ وتعظِيمِ البارئ - عزّ وجلّ - ومَا أَوحَى بِه مِن كَرم الهِداية العامة للإنسان خَاصّة… فكانت مَهارَة القراءة، مَنبرًا هَاديًا، ومَسلكًا مُرشِدًا؛ لتَعبِيد وإِنارَة سَالِك مَسارَات الدُرُوب الفِكرِية للبشرِية جَمعَاء، تحت رَايةِ العِلْمِ الجامِع للجميع؛ ومَعابرَ عِمارةِ الأَرض الزاهِرة؛ وأساليبَ غَزوِ الفضاء الواسِع؛ ومَناحِي تطوِير سُبُل آفاقِ المَعرفةِ الضّافِيةِ، جِيلًا بَعدَ جِيلٍ.

وإنَّه مَمّا يُثلِج صَدر المسلم حَقًا؛ ويُبهِج خَاطِره؛ ويُبقِي أثرَهما النابض رَصيدًا قويًا، في نّصلِ قَامةِ صُلب إيمانِه الراسِخ، مَوقِف نبي الرحمة - مُحمد بن عَبدِالله - عليه، وعلى آلِه الأطهَار، وصَحبِه الأخيَار أفضل الصلاة، وأتمّ التسليم، بعد أنْ مَنّ الله عليه، وجُموع الأَصحَاب المُؤمِنينَ مِن حَولِه بالنصرِ المُؤزّر، بفَتحِ مَكةَ المكرّمةِ؛ في العام الثامِن مِن الهِجرة النبوِية الشرِيفة، في شهرِ رَمضان المُعظّم؛ ودُخُولِ المَسجدِ الحرامِ، آمنينَ مُطمئنينَ، لَا تَأخذُهُم في الله لَومةَ لَائمٍ… عِندئذٍ بعد أنْ انكسَرَت وتقزّمَت شَوكَةُ صَنادِيد المُشركِين، وقد بَاؤوا بالفشل الذرِيع؛ وانتهوا إلى جَرّ أذيالِ الهزيمة؛ وباتُوا في قَبضةِ فَارِس الانتصار الأمجَد… هُنالِك صَدَحَ ودَوَّى سماحة صَوتُ نبي الرحمَة، فوق أعالي رُؤوس صَنادِيد أشهادِهم، وغَطارِفة أكابِرهم: «مَاذا تَظُنون أنّي فَاعِلٌ بكُم؟» … حِينئذٍ أطْرقُوا مُذعِنين، في صَمتٍ مُطبِقٍ مَهِينٍ، وقَد لَفّت مَضاجعَهِم رَهبةُ الانكسار؛ أََحَاطَ صُفوفَهِم ذُلُّ التسلِيم؛ وطَوّق جُموعَهِم خِزيُ الإِذعَان؛ فأَدْلَوا صَاغِرين بقولٍ ضِعيفٍ مُنكسرٍ: «أخٌ كَريمٌ، وابنُ أخٍ كريمٍ!» … عِندها ذُهِلُوا وانْشَدَهُوا؛ وقد اهتزّت الأرضُ مِن تَحتِ أقدامِهم؛ ورُبِطَت أَلسنتُهم، بسَماعِ صَوتِ النبوّة الرحِيم المُدوّي: «اذهبوا فأنتُم الطُّلَقَاء!»

وهُناك، فِي عَالمِنا المُعاصِر، الكَثرةُ الكَاثِرةُ مِن المُواقِف العَدائية المُتأَزّمَة، بين عَلاقَات الدّول الحَيوِية، المُتجاوِرة مِنها والمُتباعِدة؛ وعلى مُستوَى تَواصُل الأوضَاع الأُسَرِية والفَردِية… وقد اشتَدّت قَبضةُ َأَطواقِها؛ وغَلُظَت حَدائِدُ شَكائمِها؛ وبانت غَائر نُدُوبِها السمرَاء المُتمزّقة، بَين قَامَات الرّقابِ المُطَأطِئة؛ وشَلّ حَرَاكِ المَعاصِمِ المُكبّلةِ؛ وحَولَ كَواحِلِ الأَرجُلِ المُصفّدَةِ… وقَد يَبدُو للمُتفرّجِ العِيان تِباعًا، أنَّ الأبوابَ المَتينةَ الصّلدَةَ قد أُغْلِقَت؛ والمَنافِذَ المُمكِنةَ المُيسّرةَ قد أُحْكِمَت؛ والأَسوَارَ المَنيعةَ المُحصّنةَ، قد اشْتَدّت مَنَعَتُها وغَلُظَت حِراسَتُها… وبقُدرةِ قَادِرٍ مُقتَدِرٍ - بَين لَيلةٍ وضُحَاهَا - تُحَرّر الشكائمُ؛ وتُرخَي الأَصفَادُ؛ وتُفَتّحُ الأَبوابُ؛ وتُسَهّل المَنافِذُ؛ وتُدَكُّ الأسوارُ… ولعلّ الفَيصَلَ المُدبّرَ، هو نِداءُ صوت الكلمة الطيبة الحقّ المُدوّية المَسمُوعة، بأَصلِها الثابت، وفرعها النابت؛ والمُتوّجة بمِنظارٍ عَقلانِيٍ مَدرُوسٍ، يَضطّلع بوَضعِ النِّقاطِ فوق رؤوس الحروف المُهمَلة؛ ويعيدا نَهجَ ”الكلمة الطيبة؛ ودَيدَنَ العقل الرزين“ بضَخّ المياه الراكِدة، بعد تَنقِيتِها مِن أَنْتَنِ الشّوائب، في مُتّسعِ مَصبّاتٍ جَديدةٍ؛ وكَسرِ وتَقلِيمِ رؤوس أشواك حَسَك السّعدَانِ الناتِئةِ المُؤلِمةِ… فَمَا اختلاف نَقاءِ؛ ودَنَس صَفاءِ اليومِ الرغِيدِ المُعاش، بحُلْكَةَ سَحْنَةِ أمسَهِ الأَسْحَم الأَسْخَم، إلّا احتِجاب وغِياب زَحف مَواكِبِ الكَلِم الطيب، المُقبلِ الواصِل، مِن فَوق مراقي مَنصّات التفاهُم العقلاني؛ وعَلى مَنابَر مُنتديَات المُكاشَفةِ المُفتّحَةِ، بمفاتِحِ الحِكمة؛ والمُدشّنة بنَوايَا التقارُب الذاتِي؛ والمسدّدَة بتَنامٍ مَلحوظٍ مِن نِداءاتٍ صَادقةٍ إلى تَوثِيق المَصالِح الثنَائية؛ وتَطلّعاتٍ جَادةِ إلى توطِيد القَواسِم المُشترَكة، بعد أنْ عَاثَت القَطِيعةُ رَدَحًا؛ وأَفسَد التباعُدُ نَخْرًا، في صُلبِ المَفاصِل؛ وأضرّ سُوءُ الظّنِ هَشاشَةً، في بِنيَةِ العِظام… وكَأنّي بحَضرةِ الإِمام الشافِعي - رحمهُ الله تعالى - يَشدُو برِقّةِ أَسمّى هَمسةٍ تَفاؤلِيهٍ: «ضَاقَتْ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلَقَاتُهَا فُرِجَتْ… وكُنْتُ أَظُنُّهَا لَا تُفْرَجُ».* ومَا التوفِيق والهِداية إلّا بالله العَلِيّ العَظِيم!

‎* د. روحي البعلبكي- موسوعة روائع الحكمة والأقوال الخالدة- دار العلم للملايين ط 8 ص 525
‎* اليوتيوب- إنشاد شعري.