من الشراكة إلى الصراع
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الوقت الراهن، حيث العودة مجدداً إلى مناخات الحرب الباردة، مرت السياسة الأمريكية بمنعطفات رئيسية كان لها تأثير كبير في التطور العلمي الذي شهدته الساحة الدولية. ولم تكن العلوم السياسية الراهنة، ومناهج الدراسات العليا في العلوم الإنسانية التي تدرس في الغرب، سوى نتيجة هذا التطور.
لكنها في الوقت ذاته الذي حملت فيه مخاطر فناء البشرية، بسبب امتلاك سلاح الرعب النووي أثناء الحرب الباردة، بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، تحقق للبشرية عدة مكتسبات، بسبب التنافس الحاد بينهما. فكل إنجاز علمي يحققه معسكر، يعقبه إنجاز يحققه المعسكر الآخر. يضاف إلى ذلك أن عدم قدرة أي فريق من المتصارعين، على حسم التنافس لصالحه، قد أسهم في «ترصين» العلاقات الدولية. ونتج عن ذلك انقسام حاد للعالم كله إلى محاور تحالف هذا الفريق أو ذاك، وبينهما نشأت كتلة فاعلة في السياسة الدولية، عرفت بكتلة عدم الانحياز. وباتت بلدان العالم الثالث التي خاضت حروب استقلالها عن الاستعمار أقرب إلى هذه الكتلة.
منذ سقوط حائط برلين في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم، انتهت الحرب الباردة، وساد شعور عام في الغرب بأن حركة التاريخ قد توقفت. كما أشار الرئيس الأمريكي جورج بوش في خطاب النصر على القوات العراقية، إلى أن القرن العشرين صار أمريكياً بامتياز، وأن القرن الواحد والعشرين سيكون كذلك؛ بل هناك من المفكرين الأمريكيين من شطح أكثر، مثل فوكوياما، الذي تحدث عن نهاية التاريخ، بمعنى تربّع النظام الديمقراطي، بالطريقة الغربية، على العالم بأسره، وإلى ما لا نهاية. وكان صامويل هانتنغتون متماهياً مع أطروحة فوكوياما، ولكن بشكل أقل حدة، حيث قال بصراع الحضارات، وإن الحضارة الغربية ستسود العالم بأسره؛ لأنها الأقوى، وأيضاً لأنها تستجيب لحاجات البشرية، ويعبّر عنها نظام سياسي أكثر فاعلية.
ومنذ التسعينات بات الغرماء الدوليون شركاء. فروسيا والصين عملا جهدهما، كل وفقاً لأهدافه الخاصة، لكسب ودّ الأمريكيين. وباتت لغة الشراكة هي السائدة بين الغرماء، وتحول الصراع الدولي من المراكز إلى الأطراف، حيث برزت تنظيمات بمسميات مختلفة، ترفض الشكل الراهن للنظام العالمي، وتستخدم ما لديها من وسائل عنيفة لتغييره. وقد قادتها حيلها الدفاعية إلى الهجرة في الزمن، والعودة إلى الماضي السحيق. وهي هجرة لها ما يناظرها في الغرب في التاريخ الحديث، ففي الستينات من القرن الماضي برزت ظاهرة «الهيبيز» التي ترفض الحضارة المادية، وتطالب بالعودة إلى الطبيعية، والشيوعية البدائية، لكنها لم تستمر طويلاً، شأنها في ذلك شأن الزلازل والبراكين التي تعصف بقوة، ثم تستنزف ذاتها وتخمد. وقد صنفت الظاهرة الجديدة بالإرهاب. ولا تزال تداعياتها تعيش معنا، ولم يتمكن الغرب من القضاء المبرم على هذه الظاهرة حتى يومنا هذا.
وكأن الصراع قانون طبيعي ومطلوب، فما دامت الصراعات بين الكبار قد توارت، فالبديل هو تحوّل الصراع نحو الأطراف. ولأن تفرّد قوة بالهيمنة على العالم، هو أمر مخالف لنواميس الكون، ونشاز في التاريخ الإنساني، لم يقدر للهيمنة الأمريكية أن تستمر طويلاً.
صحيح أن العقد الذي أعقب سقوط الحرب الباردة كان أمريكياً بامتياز، لكن التحديات لهيمنة القوة، قد بدأت مع مطالع هذا القرن من أحداث سبتمبر عام 2001، حيث تم ضرب مراكز القوة الأمريكية في مكمنها: الاقتصاد والقوة العسكرية، ليتبعها شن حرب ضد أفغانستان لإسقاط نظام طالبان، واحتلال العراق، في مثل هذه الأيام من عام 2003.
لكن الدبّ القطبي والتنين الصيني تحرّكا سريعاً لتغيير المعادلة القائمة، سعياً إلى خلق نظام دولي جديد يعكس حقائق القوة الراهنة. وكانت نتائج ما يسمى «الربيع العربي»، وسقوط أنظمة حليفة لروسيا بمثابة جرس إنذار لروسيا الاتحادية وللصين، كي يختطا سياسات جديدة تجعل من البلدين قوتين قادرتين على تحدي الولايات المتحدة. وكانت البداية نبش الحقوق التاريخية للبلدين، وإعادة تثبيت ملفاتها. ولم يمر وقت طويل إلا والدبّ الروسي يقفز فوق شبه جزيرة القرم، ويعاود المطالبة بحقوق الناطقين بالروسية في إقليم دونباس في أوكرانيا. والصين تجدد بشكل أكثر قوة وتصميماً على استعادة جزيرة تايوان. وفي الحالتين يبرز معنى واحد، هو إزاحة الهيمنة الأمريكية عن رقبتيهما.
إذاً الحرب الراهنة في أوكرانيا، ليست إقليمية وليست بين روسيا وأوكرانيا، وأيضاً السعي الصيني إلى استعادة تايوان؛ بل هي من أجل خلق نظام تعددي مختلف يعكس حقائق القوة الجديدة، وتكون الصين وروسيا من أقطابه. ومع الواقع الجديد، ليس هناك مكان لمفردة الشراكة، فالصراع وحده العنصر الحاسم وهو سيّد الموقف.