آخر تحديث: 27 / 12 / 2024م - 3:26 م

كيف اعتدنا الغرور

عصام المرهون

من مكارم أخلاق زين العابدين ”اللَّهُمَّ وَلا تَرْفَعْنِي فِيْ النَّاسِ دَرَجَةً إلاّ حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا، وَلا تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِرَاً إلاّ أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا“

نتبذخ كل حين ونفخر بتحلينا بأخلاق النبي وآله، ولعمري لو طبقنا «فقط» هذه الخصلة من مكارم أخلاقهم، لأصبحت شوارعنا نظيفة وقلوبنا صافيةً متحابة، تعلوا مُحينا ابتسامة صادقةً دائمة، ولكان ذلك كفيلاً بأن لا نرى متسولاً أو محتالاً ولا فقيراً ذا حاجة، ولكُنا متصالحين ومتقبلين إخواننا من مختلف القبائل والفصائل والمذاهب والأديان… ذلك وحده ليكون كافياً لدحض غرورنا وتكبرنا ونظرة التعالي واستصغار الآخرين، ولستشعرنا حق دنو آجالنا وبخس ثمن هذه الحياة ولأيقنا بأنها محطة صغيرة نقضي بها شيءً يسير من عمرنا الحقيق ونرحل لحياة أبدية أخرى وهذا من شأنه أن يُصغر في أعيننا قيمة هذه الدنيا وأن بالفعل لا شيء فيها ذو قيمةٍ يستحق عناء اللهث والتعب.

يقول تشارلز بوكوفسكي: ”كلنا ميتون - كلنا… فيا له من سيرك! وكان يجب أن يكون هذا كافياً لنحب بعضنا البعض - ولكن هيهات… فالتفاهات تُفزعنا وتُسعدنا، ويستنزفنا اللاشيء“، وبالفعل نحن نظمنا الحياة ووضعنا لها معايير الكمال والمثالية البائسة، وأقنعنا أنفسنا بتصديقها والانقياد نحوها… فمنذ نعومة أظفارنا نشأنا على تخمة في الحفاوة بالتكريم والاحتفال بالمركز المتقدم، ومنذ المراحل التمهيدية إلى المدرسة والجامعة وفي سوق العمل أيضاً قمنا برسم معايير دقيقة للتفوق، نعقبها بتنظيم احتفاليات ضخمة وتصاحبها ضجة إعلامية نرصد وقتها الجوائز وشهادات التفوق التي تزيدنا زهواً واعتزازاً بالنفس، تارةً يكون ذلك لأشياء تستحق وتارةً يكون لأشياء سخيفة.

وهذه في ظاهرها أمرٌ حسن دون شك. ولكنها من دون قصد أصبحت تبني المعايير القياسية لجوانب معينة وتغفل جوانب أخرى كثيرة ربما لا تقل أهمية عنها، ونحن في وسط هذا الزخم والجري المتواصل اقتنعنا بأن هذه المعايير صحيحة وأنها أولوية من الواجب توفرها بكل فرد بغض النظر عن محدودية الإمكانيات والميول والتفضيلات المختلف بين كل واحد منا نحن بنو البشر، وأصبحنا نحث أبناءنا وأنفسنا لأن نتبعها ونبذل قصار جهدنا لرفع أسمائنا للمراتب المتقدمة فيها، والواضح أن مضامير السباق هذه أصبحت بكل جوانب حياتنا لو نظرنا بتمعن.

حقيقة الأمر أن هذه المعايير القياسية غير صحيحة، ولكن هذا ليس موضوعي اليوم، حيث أود التركيز على الزهوُ الذي تصنعه هذه الأحداث حين ترفعنا لمنصات التتويج واليقين الداخلي الذي يحتوينا بأننا الفئة المختارة المميزة والنبيلة وإن باقي الناس أقل شأناً منا وربما رُعاعٌ برابرة، وهذا الإحساس يصنعه شيءٌ ملموس وإلا لِما كل هذا التصفيق والأنوار الساطعة من حولنا، وإنه شعور مترسخ فينا لأننا نشأنا عليه صغاراً وكبر معنا حيث استمر المتفوق في تألقه عاماً بعد عام، وازداد الخائب خيبةً حيث إنه لم يستطع المنافسة. وما هذا إلا شعورٌ زائف في حقيقته. ولكن السؤال الصعب هو كيف لنا أن نربي أنفسنا وأبناءنا بالدرس الأخلاقي بمطلع الكلام… كيف نجعل من التفوق مسؤوليةً أكبر في النزول إلى صفوف الآخرين الذين كانو أقل مرتبة منا لنبحث بين ثنايا صفاتهم وأخلاقهم أو ربما مهاراتهم في شيء أفضل منا، ونطوع أنفسنا دائما بالتواضع وأن الآخرين هُم أرفع منا عند الله مقاماً… وأن من تواضع لله رفعه. وأن لا كرامة لنا عند خالقنا إلا بالتقوى.