إيحاءات قرآنية.. سؤال الهوية
لعلّنا لا نبالغ إذا قلنا بأنّ أهمّ دور تقوم به المواسم الدينية هو تلبية احتياج الإنسان للانتماء إلى هويّة تجعله يشعر بذاته متّصلةً بمادّة تروي ظمأه المعنوي.
وفي شهر رمضان ربيع تلاوة وتدبّر القرآن - الذي هو المصدر المعرفيّ والوجداني الأوّل في الإسلام - نجد الآيات الكريمة تجيب على سؤال الهويّة، وتقدّم صورة عنها، منطوقةً على لسان الإنسان المؤمن نفسه، ومنطلقةً من أعماق فطرته. هذه الهوية يمكننا تلخيصها بكلمة واحدة: ارتباط الإنسان بالله سبحانه، والانصهار في بوتقة حبّه، لا لإفناء وجوده وإلغاء شخصيّته، بل لإعادة تشكيلها وتتشييد كيانها، بلون صافٍ ومضمون إلهيّ شفيف.
إنّ هويّة الإنسان بنظر القرآن هي العبوديّة لله تعالى، بما تحمله من معاني اليقين بمعرفته، وقدرته، وحكمته، وسائر صفات كماله، ومن مظاهر التسليم والامتثال لأحكامه وتوصياته، والاستقامة في مسار مقاصده وغاياته العليا.
وليست العبوديّة سوى ترجمة لحقيقة الإنسان، المتمثّلة في كونه مخلوقًا لله مرتبطًا به ارتباطًا وجوديًّا، لا يمكنه الانفكاك عنه، حتّى إذا حاول ذلك فإّنه يجد نفسه مبتعدًا عن طبيعته، يعاني من الاغتراب والإحساس بضياع الذات وشرودها، وهو يشترك في ذلك مع بقيّة أفراد الجنس البشريّ، وهم أيضًا يشتركون في ذلك مع بقيّة المخلوقات المطيعة لله طاعة تكوينيّة قهريّة. لذلك فإنّ الدين يريد أن يحقّق للإنسان انسجامه مع ذاته، ومع حركة الكائنات المسبّحة بحمد الله والخاضعة لقوانينه، من خلال تطويع إرادته الحرّة في صراط العبادة.
فالعبادة بهذا التعبير هي مظهر تشريعي للعبوديّة التكوينيّة الفطريّة، وبتحقيقها يكتشف الإنسان مخازن طاقته البشريّة الهائلة، وينفتح على آفاق واسعة من القدرات، التي يمكنه الاستعانة بها على إعمار حياته الدنيا؛ وفق الهندسة الإلهيّة الدقيقة والحكيمة، وبما ينعكس على تأسيس حياته الخالدة في الدار الأخرى.
وعليه فحين يعلن المؤمنون أنّهم عابدون لله وحده، خاضعون له، مسلّمون، يكونون قد انحازوا إلى جانب قوّتهم، وتحرّروا من أغلال الضعف، التي يقيّدهم بها وهمُ التمرّد عليه سبحانه.
﴿إِ?َّاكَ نَع?بُدُ وَإِ?َّاكَ نَس?تَعِىنُ﴾ - سورة الفاتحة؛ 5.