آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 3:01 م

الصمت والجمال...!

الدكتورة زينب إبراهيم الخضيري * صحيفة اليوم

كيف لنا أن نتعلم الهدوء والسكينة وسط كل هذه المشتتات والركض السريع في حياتنا المتسارعة، ربما البداية تكون بممارسة فلسفة الصمت والتأمل. والسؤال الذي ظل يلاحقني، هو على الرغم من أن الصمت فضيلة ويدل على الحكمة والعمق كما تتناقلها الأساطير والثقافة العربية.. هل نحن فعلاً نحتاج لأن نصمت ونتأمل فقط؟ يرى بعض فقهاء اللغة دلالة للصمت فهي عندهم «فعل إرادي» لأنه يمثل المدخل إلى وعينا بالطرق الجديدة للكينونة، فالصمت يتدارك جهلنا أقل مما يشفينا من تبجحنا، وهنا لن أضع رأيي من المنظور الإفلاطوني حيث يختلط الجميل مع الحقيقي والخير مع العدل، إلا أن الصمت ينتمي دائماً إلى العالم المشترك للبشر، ولو تأملنا في الفلسفة البوذية التي تجعل من الصمت رياضة للذهن ومصفاة للنفس ونافذة للتأمل سنجدها نوع من أنواع التشافي والتصالح مع الحياة، ويعتبره المتصوفون مقاما روحيا يطهر النفس ويزيد من سموها عند الخالق. كذلك الفلاسفة كان لهم وقفة مع فلسفة الصمت حيث الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر وحواره الوجودي عن حديث الأنا للذات الصامتة وكلام الأنا مع الآخر للتعبير عن وجود الأنا الحرة الواعية. ولا نستثني فلاسفة الجمال حيث يرون أن الصمت من أرقى صور الجمال ويفسرون اللحظات الصامتة في الأعمال الموسيقية والسكتات الإيقاعية والفراغات في اللوحات التشكيلية وغيرها بأنها جميعها تعبر عن فلسفة الصمت وجمالياته. كلنا نعلم إن للصمت قواعده، والصامت سيد نفسه، وفي السياسة الصمت هو الأقوى وهو من يتكلم بقوة، وباعتقادي أننا نحتاج للتوغل في هذا الصمت الذي قد يرمم ما تهدم من إنسانيتنا.

وفي فلسفة السفر والتأمل نجد بعض المدن وكأنها تفتح أزرار قميصها لتتعايش مع الزمن الاجتماعي والثقافي وقبلها الإنساني بصمت مبالغ فيه، وبعض المدن تعلمنا حب الحياة دون الاستعانة بأدوات كثيرة أو تلويحات وإيماءات ودون أن تتخلى عن هويتها وتاريخها بطريقة جاذبة بهدوء وكأنها ترسل رسالة شبيهة بما كتب على قبر كزنتزاكيس «لا أطمع في شيء.. لا أخاف من شيء.. أنا حُر».

إن الثقافات الأكثر حيوية والأعظم تأثيراً، هي التي بسطت كفها لمواجهة الحياة وإشكالياتها عن طريق تأمل ماضيها والعيش بحاضرها، أيضاً هي التي لم تدع امتلاك الحقيقة، ولم تغلق نوافذ الحوار مع الآخر، بل تسعى بصمت لاحتواء مستجدات الحياة، وتتوحد مع الواقع للبحث عن إجابات لمزيد من الأسئلة، دون إحداث ضجيج أو التبجح بمعرفة كل شيء، يقول إلدوس هكسلي: «الكلمات كأشعة إكس، أحسن استخدامها، تخترق كل شيء». لذلك عندما نجيد حرفة أو مهنة يتعين علينا أن نتأمل فيها ونعيش بكل تفاصيلها وندرسها من جميع جوانبها دون إحداث ضجيج بل بتأمل وصمت وقدرة على البحث عن الجمال في كل شيء حولنا.