محاولة فهم الاتفاق السعودي - الإيراني
ما أن نُشرَ البيان الثلاثي في العاصمة الصينية بكين، والذي تم فيه الإعلان عن الاتفاق على عودة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، حتى خرج خلال الأيام الفائتة عدد هائل من المقالات والتعليقات على شبكات ”التواصل الاجتماعي“، فضلاً عن الفيديوهات، وشاشات الفضائيات التي استضافت عدداً من المحللين والمعلقين، وجميع هؤلاء يقدمون ما يعتقدون أنه قراءة تفسر أسباب الاتفاق ومستقبله وما الذي سيترتب عليه، خصوصاً أنه جاء برعاية صينية. مستفهمين عن موقف الولايات المتحدة الأميركية من الدور الصيني، وإذا ما كان ذلك جزءا من النفوذ الناعم لبكين عبر سياسة ”الدبلوماسية المرنة“!
كان هنالك محللون جيدون يمتلكون دراية عن القضايا التي يتحدثون أو يكتبون حولها، وقدموا تفسيرات منطقية للتطورات السياسية الأخيرة. إلا أنه وسط هذا الكم الهائل من المعلقين، وخصوصاً باللغة العربية، تكتشف جرأة كبيرة على ادعاء الفهم العميق، أو التحليل الدقيق الذي لا يشوبه نقصٌ أو خلل، بحيث تقرأ وتسمع العديد من العبارات القطعية، والجزم في الآراء والمواقف، لمعلقين كثير منهم لا يمتلكون أي خبرة بالشأن الإيراني، فهم متابعون سطحيون لما ينشر في ”السوشال ميديا“، ولو سألت غالبيتهم عن الثقافة أو السينما أو الفن أو الاقتصاد أو التركيبة السياسية والمجتمعية في الجمهورية الإيرانية، لن تستمع منهم إلا أحاديث عمومية تشير إلى ضعفِ المخزون العلمي والمفاهيمي، وبالتالي يكون السؤال: كيف يمكن أن تُبنى وجهات النظر السياسية دون معلومات ذات صدقيةٍ ومخزون معرفي رصين؟ هل ما يُقدمُ يسمى تحليلاً، أم هو مجرد ثرثرة ورأي شخصي لا أكثر ولا أقل!
الملف الإيراني من الملفات المهمة في الشرق الأوسط، وهو متشابك كثيراً؛ ما يجعل عدداً من الأحكام على الضفتين خاضعة لتصورات قَبلِية وأحكام مسبقة، وبالتالي فإن القراءات العلمية الموضوعية المحايدة، قليلة، وتكاد تنحصر في مجموعة بسيطة مع الخبراء الذين لا يظهر أغلبهم في وسائل الإعلام، وإنما يشاركون في حلقات النقاش المغلقة، أو يقدمون الاستشارات لعدد من صُناع القرار والمؤسسات المعنية.
حتى مراكز الدراسات المختصة بالشأن الإيراني، عربياً وخليجياً، قليلة العدد، ومع هذا فجزء منها هشٌ في بنيته المعرفية، والدراسات التي تكتبُ - لا أقول جميعها - بل عدد منها هو أشبه بمقالات الرأي، أو الرصد القائم على جمع ما ينشر في الصحف والمنصات الإعلامية، دون أن تكون مدعومة ب ”تحليل رصين“.
أحياناً تجد أيضاً ما يعرف بتقارير ”تقدير الموقف“، مكتوب بلغة غرائزية، فيها من العبارات الوصفية والعاطفية الشيء الكثير، وفيها بعض الإسقاطات التي تتعارض ومنهجية البحث الموضوعي القائم على المهنية والصدقية والحياد.
نحن في منطقة الخليج العربي بحاجة لـ ”بيوت أفكار“ مختصة بالشأن الإيراني، لا تقع في فخِ ”الدعائية“، ولا ترتهن لرغبات ”الجماهير“ التي أحياناً تكون ضاغطة على الباحثين والمفكرين، وتريد منهم أن يكونوا ضمن سياقها الصاخب في مواقفه!
إذا أردنا أن نُحسن قراءة المتغيرات السياسية في الشرق الأوسط، وتحديداً الشأن الإيراني وما يتقاطع معه في الإقليم، فعلينا ككُتابٍ ومعلقين أن نفهم السياسة الإيرانية بأسلوبٍ بحثي مختلفٍ عن السائد، وأن نتعرف على الثقافات الإيرانية، والفروقات بين القوى السياسية ومراكز القوى في الداخل، والتغيرات الفكرية والاجتماعية التي يمر بها الشعب، ونظرته إلى علاقاته مع دول الجوار، ولا نأخذ ذلك من زاوية واحدة أو مصدر أوحد، بل من خلال تتبع خطاب القيادات، وأيضا نتاج المثقفين والأكاديميين والفنانين والجيل الجديد من الشُبان والفتيات.