موت اللّغة وانقراضها: قصة إحياء بالغناء
في مقالة سابقة بعنوان: ”ماتت امرأة فانقرضت لغة“ عن وفاة المرأة الشيليّة كريستينا كالديرون آخر متكلمة للغة ياغان في أمريكا اللاتينية [1] ، قلت: ”إنَّ بين الإنسان واللغة علاقة تبادلية، فهي تمنحه وسيلة للتعبير عن مشاعره وفكره وثقافته، وتمنحه هويَّة، ويكون بها كائنًا اجتماعيَّا بتربيته وتواصله مع الآخرين، …، وفي المقابل هو يمنحها نموًا وتطورًا وتاريخًا، وبه تحيا وبه تموت وبه تنقرض…. إنَّ انقراض لغة لهو خسارة إنسانيَّة؛ لأنه عمليًّا فقدان ثقافة مجتمعات تساهم في تكوين المجتمع الإنساني الأكبر؛ ولأن للموضوع أبعاد مختلفة، ومفاهيم متعددة، فللحديث بقيَّة....“
لم تأتِ بقيَّة الحديث في وقتها لظروف خاصة وانشغالات، لكن تأبى الأقدار إلا أن تقول كلمتها، فجاء الحديث عن موت اللُّغة بسرياليَّة: لغة مهددة بالانقراض نَفخ مُغَنٍ فيها من روح موسيقاه … فبُعثت! [2]
في ”هايد - أوَيّ أون لي“ «Hideaway on Lee»، وهو بار ومكان للموسيقا في مدينة لافاييت في ولاية لويزيانا الأمريكية، يردِّد سيدريك واطسون «Cidreck Watson» كلمات ”أوه، باي باي“ في ”فرنسيّة لويزانيا“ «Louisiana French». اللَّحن لا يفشل أبدًا في جعل الجمهور يقف على قدميه على أنغام بلوزية «blues» وأغنية ”Ma Petite Femme“ «امرأتي الصغيرة». سرعان ما يستبدل واطسون الأكورديون بآلة الكمان، ويُغيِّر اللُّغة من ”فرنسيَّة - لويزيانا“ إلى ”لغة الكريول“ «كوري - فيني: Kouri-Vini»، المهددة بالانقراض. يأتي اسم ”كوري فيني“، من النُّطق الهجيني للفعلين في اللُّغة الفرنسية: ”courir“ «للذهاب» و”venir“ «للقدوم»، وهو الاسم التاريخي للغة Louisiana Creole والَّذي تم استعادته لمنع الخلط مع أشياء ”كريوليَّة“ أخرى، مثل الإثنيَّة والأنماط الموسيقيَّة وتقاليد الطهي.
سيدريك واطسون هذا هو أحد ألمع المواهب المعاصرة في موسيقا الزايدك zydeco الأمريكية، الموسيقا التقليدية للغة الكريول القديمة في لويزيانا للمجموعة العرقيَّة التي تضم جماعات من مستوطنين أوروبيين وأفارقة في الولايات المتحدة حين كانت مستعمرة فرنسيّة [3] .
هذه الموسيقا تمزج بين موسيقا ”البلوز“ «Blues» و”آر بي“ «R & B» و”السَّول“ «Soul»، وتعتمد بشكل كبير على تقنيات الإيقاع التي تعكس جذورها الأمريكيَّة الأفريقيَّة والأفرو - كاريبيَّة. كلمات الأغاني تكون باللغتين الإنجليزية ولويزيانا الفرنسية، وبلغة ”كوري فيني“.
يُعدُّ واطسون جزءًا من عودة الاهتمام الشعبي لإحياء لغة ”كوري فيني“، التي كانت في بداية القرن العشرين الماضي لسان الكثير من سكان منطقة تضم اثنين وعشرين «22» مقاطعة في جنوب غرب لويزيانا المعروفة باسم أكاديانا «Akadina». يُطلق على هذا الجيب الثقافي الفريد في الولايات المتحدة أحيانًا اسم ”بلد الكاهون“ «Cajun Country»، ولكن قبل وقت طويل من وصول الأكاديين الفرنكوفونيين، أو الكاهون، من نوفا سكوتيا في عام 1755م، كان هناك عدد أكبر بكثير من سكان الكريول الناطقين بالفرنسية - الأشخاص الذين لديهم جذور في أوروبا والمولودون في الحي الأفريقي في لويزيانا، ثم بدأت لغتهم الكريول مرحلة الاحتضار والموت البطيء بهجرها وما قبل الانقراض؛ بسبب عدم وجود ناطقين بها، لكن اليوم بسبب المغني واطسون، الذي من المقرر أن يصدر ألبومه في الصيف القادم بأغاني أغلبها بلغة ”كوري فيني“، بلغ عدد المتحدثين باللغة حوالي 6000 شخص، ويتوقع أن يزداد هذا العدد مع تزايد شهرة المغني وأغانيه، ويعود الفضل في جزء كبير منه إلى جيل من الموسيقيين الذين كرَّسوا جهودهم للحفاظ عليها، ثم نهضتها، ويعتبر واطسون، الذي يقدم عروضه في جميع أنحاء العالم سفيراً للثقافة واللغة الكريوليَّة.
تقول ديزيريه شامبين، العازفة في فرقة واتسون: ”عندما انضممت إلى هذه الفرقة في عام 2011م، عرفت للتو بأنني أمريكيَّة من أصل أفريقي، ولكن الآن، أثناء سنوات من السفر والتعلم، أُعرَّف أيضًا بصفة كريول“. وتضيف: ”تكمن أهميّة الحفاظ على الثقافة والهويّة في فهم هويتك ومن أين أتيت وما أنت جزء منه“.
نشأت لغة ”كوري فيني“ في لويزيانا في أوائل القرن العشرين الماضي وامتدت عبر الحدود إلى شرق تكساس، الولاية الأصليّة للمغني واتسون الذي ترعرع على سماع أقارب مسنين يتبادلون أخبار الحيّ بها. بعد وفاتهم، أدرك واطسون، وهو أمريكي من أصل أفريقي، أن لغة أسلافه كانت تموت معهم. بدأ في استخدام فنه منصةً لتنشيط هذه اللغة المتجذرة بعمق في تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي.
في أوائل القرن الثامن عشر، أنشأ المستعبَدون حديثًا مزيجًا من لغاتهم الأصلية في غرب إفريقيا واللغة الفرنسية «لغة المستعمِرين» للتواصل في مزارع السكر وغيره في لويزيانا حيث كانوا يكدحون.
يقول واطسون: ”إنها اللغة الأم [الأولى] التي كان يتحدث بها كُلّ هؤلاء الأفارقة القادمين من قبائل وطوائف مختلفة عندما كانوا مستعبَدين“. ”كانت لديهم لغات هجينة «pidgins» تحدثوا بها لبضعة أجيال، حتى تطورت إلى نظام لغوي متقدم «creole»: كوري فيني“.
لا يحافظ واطسون على هذه اللغة بعروضه الحيَّة فقط، ولكن أيضًا يستغل برنامجه الإذاعي ”أُمَّة الكريول“ «La Nation Créole»، على محطة Lafayette’s KRVS-88,7 في نشرها. في هذا البرنامج الغنائي والموسيقي الكريولي، الَّذي ترشح إلى ”جائزة غرامي“ «Gramme Award» أربع مرات، يقوم واطسون بتدوير الأنغام الكريوليَّة من لويزيانا ومن جميع أنحاء العالم الناطق باللغة الكريوليَّة الفرنسيَّة، مثل هايتي وغيرها، وشعاره ”دعونا نربط الكرة الأرضية من خلال موسيقى الكريول… تابعنا على برنامج“ أُمَّة الكريول ”بعد ظهر يوم الأحد الساعة 4 مساءً. نحن هنا نتحدث الكريول «Içi nou parlé Kreyol»“ [4] .
قد يكون المغنى أيضًا حياةَ اللغة، لكن هذه الحكاية تؤكّد أنّّ اللُّغة لا تموت إلا بهجرها، ولا تنقرض إلا بفناء أصحابها…، وشخصٌ واحد فقط «رجل أو امرأة» هو كُلُّ ما تحتاجه قبل أن يرحل ليبعثها من جديد، إذا توفر لديه الحبّ والرغبة وتفعيل مواهبه وقدراته بإخلاص، وهذا النوع من الحبّ مُعدٍ، فما أجملها من عدوى تحفظ للإنسانية تاريخ أمم وثقافة شعوب!