آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

عن الكتابة والماء

طاهرة آل سيف

أمام حوض غسيل الصحون، حين أُدير الرغوة على الأطباق، تُدار الكثير من الأفكار في رأسي، ثم تهبط الكلمات تترا وأنا أصف الأطباق لتجف، ولأن نافذة المطبخ تنتصبُ فوق الحوض مباشرة فأنا أحظى بأشعة شمس وهاجة تنعكسُ على قدوري وأكوابي المبللة، فتنفرجُ عن لحظة تنوير كانت عالقة لأيام طويلة، أو تتخلق فكرة جديدة لنص غائب، فضلاً عن عصافير لطيفة تحطُ وترحل في البُعد، تناوشها قطط ملولة، وتلك وقفة جلاء كثيرًا ما تُذعن بها أفكار عنيدة.

عجزت أن أدرك السبب وراء فعل الكتابة في هذا المكان بالذات، فكرتُ أن لخرير الماء صلة بذاكرتي الجسدية، فإن كنا في ماديتنا جزءٌ من ماء وجزءٌ من تراب وجزءٌ من نار، فلربما يكون جزئي المائي هذا قد اختلط ببقية عناصري في لحظةٍ خُطّ بها قلم في زمانٍ أو مكانٍ ما!، لكنني بطرتُ على فكرة أن ينساب قلمي أمام حوض الغسيل وأنا أجلي الصحون، فحدثتُ نفسي أن أذهب للشاطىء على الرغمِ من أني لا أحب البحر مثل أي بشري ساحلي، ولكنني حملتُ نفسي على حب البحر وقلتُ على الأقل مكان في كنفِ الطبيعة ينثالُ فيه قلمي بدل حوض الجلي هذا، ذات كتابة عالقة ذهبتُ للبحر، تسمرتُ أمام الشاطىء أمعن النظر في تشابك الأمواج، تهيج نحو المد وتنسحب عن الجزر، تلاطمها بدأ يخدش هدوئي، تجاهلتُ الصوت وقلتُ لأستدر أفكاري وأنظرُ للأفق، بدأتُ أتأمل درجة دقيقة مدهشة من الزُرقة تفصل السماء عن البحر، فأحدثت حركة الموج حول قدمي دوار في رأسي، تبدد شرودي!، تمتمتُ بضجر، الماء ُ هنا رجراج ثائر لايشبه نفسه وهو ينسل مُهذباً من الصنبور، سحبتُ قدمي اللتين اشتكتا لسعة الأملاح والطين، ومضيت..

قلتُ في نفسي ماذا لو كان السر في غسل الصحون وليس في انصباب الماء، لوهلةٍ تخيلتُ نفسي جدتي ماذا لو كنتُ أنا جدتي الكاتبة!، أحملُ طشتاً كبيراً على رأسي كل ظهيرة وأذهب به إلى «الشريعة»، أغسلُ صحوني وتتداعى أفكاري، أكتب أسرار الجيران، ثرثرة الضرائر، وأخبار قرية متجددة كل نهار، أكتبهنّ وهنّ يشكلن صفاً يغسلن الأطباق والثياب ومؤخرات الأطفال، تنزلق قدم احداهن فتشلُ «جنية التنور» مهاراتها في الغوص وتسحبها لأعمق مكان في الماء، فيهبُّ أحد المارة يغطس سريعاً وينتشلها من غرقٍ يستحق الكتابة! تحت أفياء النخيل وتغريد الزرازير كم من الحكايات كانت ستكتب جدتي..

لربما أفضل من حكايات حفيدةً لها، ترى الآن أنها تستجدي الفكرة خلف قضبان نافذة باهتة، وحوض غسيل بائس، وضوء شمس حارقة، وزقزقة مستفزة لعصافير تخاف الإقتراب..

أنا الآن أغسل الصحون بعد وجبة غداء دافئة، أقف جانباً أجفف أصابعي جيدًا لألتقط جهازي وأكتب ما انهال عليّ قبل أن يهرب، بينما صنبور الماء يظل مفتوح يشكو نزقي!.

*الشريعة: تفرعات مستقيمة من العيون الجوفية المنبثقة في بطون القرى.

*جنية التنور: التنور أعمق مكان في عيون الماء يشكل قوة مائية يغرق بها الكثير، كان اعتقاد أن هناك جنية تسكنه.
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
وردة الجاسم
[ صفوى ]: 25 / 2 / 2023م - 7:36 م
بوركت تلك الجهود ابنتي الغالية طالما حلمت ان ارى قلمك يعبرويعبر فالسعادة تغمرني وانا أقرأ أدبك وثقافتك وأطلب من خالقك التوفيق والرعاية
2
ام محمد
[ صفوى ]: 26 / 2 / 2023م - 11:21 م
ماشاء الله تسلم الأنامل كتابة رائعة تبحر بالخيال والأستمتاع أثناء القراءة