آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 1:06 م

راسم الكلمات

عبد الباري الدخيل *

زهير

لا أعلم من أين بدأت الفكرة تتسلل إلىٰ ذهني؟ لكنني اقتنعت بها بقوة، وسأحاول أن أجرب؛ ففي التجربة علم نافع.

الفكرة تتكون من خطوة متقدمة جدًّا في الهوايات، وهي أن أحاول الانتقال لهواية جديدة، مع تحدٍّ في النجاح، وقراءة النتائج.

«زينب» ترسم منذ فترة طويلة، وقد مارست كل أنواع فنون الرسم، لٰكنها استقرت في الفترة الأخيرة على تصميم الأزياء، وذٰلك لأنها وجدت شخصيتها الهادئة تتناسب وهٰذا الفن، وقد استغنت بما تصممه لها ولبناتها عن الأزياء الجاهزة؛ بل صار بعض الأهل والأصدقاء يستعينون بها في اختيار أزياء المناسبات.

دخلتُ عليها مرسمها وكانت تتناول قهوة الصباح... قابلتني بوجهها الجميل الدافئ.. سلمت وأنا أقترب منها بهدوء، وجلست وهي تلاحقني بنظرات مشككة؛ فليس من عادتي زيارتها في هٰذا الزمان وهٰذا المكان.

قلت: ما رأيك - يا سيدتي! - أن تعلميني الرسم؟

ابتسمت، ووضعت كوب القهوة من يدها، واعتدلت في جلستها، ثم هزت رأسها رافضة.

قلت: لماذا ترفضين؟ فقط أعطيني خطوطًا ابتدائية.

- بشرط.. أن تعلمني الكتابة.

- لا.. فهذا جهد عليَّ مضاعف

- ماذا سيحدث لو جربنا شيئًا جديدًا ليوم واحد؟

- وما الذي يجعلني أوافق؟

- التجربة.

- نتبادل الهوايات.. أنا أرسم وأنت تكتبين.

- نعم.

- إن أردتِ أن تكوني كاتبة حقيقية، وأن يقرأك الآخرون، يجب أن تسكبي أحاسيسك على الورق، وتتحدي والحرف، كالنور والنار؛ هما واحد، وليسا كذٰلك.

يا سيدتي... القراءة والكتابة الدائمة جناحاك للوصول إلىٰ حالة الرضا الداخلي؛ إذ بالقراءة، تبنين قصرك العلمي الشاهق، وتزرعين حديقة ثقافتك الغناء، وبالكتابة تنظِّمين ما تقرئين.

- ماذا يجب أن أقرأ؟

- كلّ شيء.. فالقراءة محفز كبير على الكتابة للتعبير عن المشاعر والأفكار.

- وهي تشير بيديها: كلّ شيء؟!

أجبتها وأنا أنظر إلىٰ عينيها تشعَّان بالحب: عندما تقرئين، تتعرفين على تجارب الكتَّاب وأفكارهم، وتختارين الأنسب.

وضعت كوب القهوة من يدها وسألت: ما الذي أستفيده من القراءة؟

أمسكت القلم وصرت أرسم خطوطًا، ثم قلت: إذا اعتدتِ القراءة، ستصبح فعلًا روتينيًّا يشبه فعل الأكل والشرب، فكما تقوم المعدة والأمعاء باستخلاص الفوائد من الطعام روتينيًّا، وتتخلص من الزوائد والسموم، كذلك يفعل العقل مع القراءة.

ثم انتقلت معها إلى الحديث عن أنواع الكتابة... فهناك المقالة، الرواية، القصة، الخاطرة، القصيدة بأنواعها...

وشرحت لها أنواع الشعر وأشكاله، وأنه الكلام الجميل الموزون المقفىٰ وغيره من الشعر الحديث؛ وكون القديم موزونًا مقفًّى لا يكفي أن يكون شعرًا حقيقيًّا.

وعرَّفتها الأوزان والبحور، كالطويل والخفيف.. الرمل، البسيط…

ثم شرحت لها القافية وشروطها، وأوضحت لها الأمور التي يجب الالتزام بها في أواخر أبيات القصائد؛ حتىٰ تكون قصيدة جيدة، وموسيقاها متناسقة.

واقترحت عليها أن تكتب ابتداءً وتحاكي لحنًا لقصيدة، وقد اخترت لها قصيدة من بحر الرمل، ثم ترنَّمتها بأكثر من لحن، وخيَّرتها بين الأحان.

قالت: لِمَ الرمل؟

قلت: هو سهل جميل.

زينب

كل صباحاتي تتشابه؛ فيومي يبدأ بتقديم العون لأبنائي وبناتي استعدادًا للذهاب إلى المدارس، ثم أعد فنجان قهوتي مع شيء من الطعام.. أتناوله علىٰ عجل، ثم أتجه إلىٰ مرسمي.

في هذه الصومعة أعيش أجمل اللحظات، متحدة مع الألوان والفرش وخامات الرسم.

تنقلت منذ أن بدأت الرسم بين فنونه كلها، حتى استقرت رحالي في ساحة تصميم الأزياء؛ لما فيه من إبداع وتميُّز، ووجدت من زوجي وأسرتي الترحيب والتشجيع والدعم.

هذا الصباح اقتحم زوجي عليَّ خلوتي، وطلب مني أن أعلّمه الرسم، وكانت حجته أنه يحب أن يجرب تغيير هوايته.

«زهير» من الشعراء المتألقين المميزين، فكلمات قصائده تأسر القلوب، وتعابيره تجذب المستمع، ولا أخفي عليكم أنني كنت أستعين به كثيرًا في اختيار عناوين لوحاتي، وكتابة بعض العبارات الأدبية؛ للتعريف بصور لوحاتي في مواقع التواصل الاجتماعي، وكانت تعجب الجميع.

وكنت منذ مدة أفكر أن أتعلم منه كيف يكتب؛ لتكون العبارات توأم اللوحة، أكتبهما معًا.

عندما طلب مني تعليمه الرسم، اشترطت عليه أن يعلمني الكتابة فوافق.

قلت له يا حبيبي... الرسم سهل؛ لٰكنه يحتاج إلى جرأة، وتدرّب،

وستجعل الممارسة من يدك الثقيلة المرتجفة يدًا معتادة الإمساك بالقلم، ورسم الخطوط بسلاسة.

حدّثته عن تحويل الأشياء من مسطحة إلى مجسمة.. فالدائرة ليست رسمًا؛ ولٰكن الكرة رسم.. وكذا المربع والمستطيل، وحتى تتضح واقعيتها، لابد من التركيز على الظل والنور، ومعرفة الأبعاد، والإحساس بالألوان.

قلت: يا حبيبي... إذا أحببت اللوحة، ومنحتها من روحك، أعطتك نتائج تبهرك قبل الآخرين.

وشرحت له أنواع الفنون، كالواقعي، والكرتوني، والمناظر الطبيعية، والأزياء.

ثم سلمته ورقة وقلم الرصاص ووضعت أمامه إحدى اللوحات، وطلبت منه رسم صورة تشبهها.

خسران

بعد أكثر من خمس ساعات من التجارب سألت زوجي: ما جائزة من فاز في هٰذه التجربة؟

قال: الخاسر هو الذي يتكفّل بقيمة وجبة الغداء.

فقطبت جبيني، وتأففت، ثم تناولت الهاتف، واتصلت بالمطعم وطلبت وجبة تكفي لخمسة أشخاص! وبعد أن اطلعت على لوحته أجبرته على دفع الفاتورة.