آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 8:44 م

من عبق البعثة النبوية ‎‎

ورد عن أمير المؤمنين : أرسله على حين فترة من الرُسُل، وطول هجعة من الأمم واعتزام من الفتن، وانتشار من الأمور، وتلظٍّ من الحروب، والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرارٍ من ورقها، وأياسٍ من ثمرها» «شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 6 ص 387».

ما أجمل هذه الأساليب البلاغية التي يصور فيها أمير المؤمنين أهمية وعظمة ونورانية البعثة النبوية، وما سبقها من حالة تناحر وظلامية في حياة الناس حيث أخذوا في عقيدتهم بأبشع الصور، فعبدوا الأصنام التي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا فضلا عن جلبها الخير لغيرها، وقد انجرف الناس نحو الحياة المادية واتصفوا بالطمع في متاعها الزائل، مما حدا بهم أن يظلموا ويعتدوا ويغشوا فقد ساد بينهم منطق الغاب وافتراس الضعيف وانتهاب ممتلكاته، ويشبه الإمام تلك الفترة بالشجرة المصفرة أوراقها والميؤوس من إثمارها، فاخضرت وأينعت وأثمرت لما بعث رسول الله ﷺ وقاد عملية التغيير الإيجابي في عقيدتهم وأخلاقهم وتصرفاتهم وعلاقاتهم على المستوى الفردي والاجتماعي.

البعثة النبوية صفحة مشرقة من تاريخ البشرية حيث أعيدت للإنسان قيمته وكرامته، وبدأت في التلاشي دياجير حقبة تسافل فيها أكثر الناس إلى مستنقع البهيمية والجهالة والانحطاط الأخلاقي، وبزغت أنوار الدعوة المحمدية لتحدد أهم الأهداف المتوخاة والنتائج المترقبة من تلك الجهود الكبيرة لأفضل الخلق ﷺ، إنها صياغة شخصية الإنسان وفق قيم الفضيلة والصدق واحترام النفس والآخر وتوعية الضمير، وفتح البصيرة على تلك المكارم لتميزها عن الرذائل والعيوب، فالقرآن الكريم يبين لنا فداحة ما آلت إليه أحوال الناس قبل البعثة النبوية بالتعبير عنها بالضلال المبين، نعم إنه انهيار سور القيم الأخلاقية وتمزيق ثوب النبل والعزة على المستوى الفردي والاجتماعي، فما من جنبة من جوانب حياتهم وعلاقاتهم إلا وسادها الظلام والانحراف عن الفطرة السليمة، ولا يمكننا أن ندرك ولا نقدر عظمة الجهود المحمدية في إصلاح النفس البشرية وإعادتها إلى سكة الاستقامة ويقظة الضمير إلا من خلال الإطلال على نافذة فترة الجاهلية ومدى التفلت الذي عاشه الناس وانسلاخهم عن مستوى الإنسانية، ففي آيات أخرى تعبر عن عظمة البعثة النبوية بأنها نقلة من ظلام التخلف والجهل وانحطاط القيم إلى نورانية مكارم الأخلاق واحترام حقوق الآخرين، لقد انبلج الخير في النفوس بعد أن تلقت نداء الوحي والتوجيهات الربانية، فزالت معالم التشردم الذي كان يعيشه الناس وتفتت العلاقات والقطيعة لأتفه الأسباب، فرفع عنهم غطاء الأمن الاجتماعي إذ لم تكن القبيلة لتأمن على وجودها وممتلكاتها، والتي قد تزول في لحظة غير مسبوقة بإنذار لتصبح أثرا بعد عين، وأما الكيان الشخصي فقد ضاعت هيبته ووجوده الحقيقي لما انغمسوا في الشهوات التي استزلتهم عن سمت الاحترام والكرامة والاتزان العقلي والنفسي.

وحل اللطف الإلهي والرحمة بالعباد لإعادتهم لجادة الحق والهداية من خلال إرسال أعظم الخلق لإصلاح نفوسهم وأحوالهم، لابد لسلسلة الجرائم في حق أنفسهم والأخلاقية على اختلاف أشكالها أن تتوقف، لا عن طريق العنف اللفظي أو الجسدي حتى بل من خلال الإقناع العقلي الناتج عن الحوار الهاديء والكلام الطيب المتضمن للبراهين الدالة على التوحيد ومكارم الأخلاق، فقد استغرقوا في ظلامية الشهوات الجنسية ورفعت الأعلام فوق بيوت الدعارة واستهانت بكل القيم وتعرت عن لباس الإنسانية الجميل، وما هو أعظم وأدهى من التجاهر بارتكاب الفواحش وانتشار الموبقات بينهم، وفي خضم هذه الموجة من الانحراف أقبل الهدي الإلهي على يدي من عرفوه ووثقوا به منذ نعومة أظافره وسموه بالصادق الأمين، فقد قاد الرسول الأكرم ﷺ عملية التغيير من خلال توعية العقول وإرشادها لما يصلحها وينميها، دعاهم إلى حياة الطهارة والنزاهة النفسية والكرامة الإنسانية المتمثلة في الترفع عن الرذائل والعيوب والتنزه عن الموبقات، فقد تضمن الدستور الإسلامي المتمثل بكتاب الله تعالى الأدلة والبراهين المؤيدة لفكرة الخالق العظيم وهدم عبادة ما سواه من الأصنام والأوثان، ولخص ﷺ دعوته بعنوان «إتمام مكارم الأخلاق»، فالتدين الحقيقي احترام النفس وحقوق الآخرين والحركة النابعة عن عقل واع وبصيرة واضحة، فصراط الكمال الإنساني هو المسير الذي يهتدي فيه المرء بالهدي النبوي وما يتضمنه من معاني الجمال والفضيلة، وتطهير القلوب من المشاعر السلبية المتضمنة للكراهية والأحقاد والتي تدمر العلاقات الاجتماعية.