في تداعيات كارثة القرن
فجر الاثنين الماضي، ونحو الساعة الرابعة فجراً، حدث أعنف زلزال واجهته تركيا في عصرها الحديث، اقتربت قوته من 8 درجات على مقياس رختر، مؤدياً إلى تضرر مناطق واسعة في الجنوب التركي، قدر عدد سكانها بثلاثة عشر مليون شخص، وكانت حصة الأسد فيها من نصيب أنطاكيا، في هطاي وكهرمان مرعش. وكانت سوريا، هي المتضرر الآخر، من هذا الزلزال، حيث شملت تأثيراته الشمال السوري بأكمله، ومدناً كبرى مثل حلب وحماه واللاذقية. وقد وصف الرئيس التركي، رجب الطيب أردوغان هذا الزلزال ب «كارثة القرن».
وتوقعت منظمة الصحة العالمية أن تفوق الخسائر البشرية، بناء على مشاهدة ما جرى بمئة ألف قتيل، وأضعاف ذلك بكثير من الجرحى، إضافة إلى تهدم مدن واقتلاعها بالجملة، وتشرد قرابة 5 ملايين شخص، ممن باتوا من غير مأوى، وقدرت السلطات التركية قوة الزلزال، بقوة خمسمئة قنبلة ذرية.
الوضع على الجانب السوري، يبدو أسوأ بكثير منه في تركيا، على الرغم من فداحة الخسائر التي عاناها الجنوب التركي. فالزلزال الذي حدث في سوريا، أخذ مكانه في أماكن منكوبة سلفاً، أنهكتها الحرب الدامية التي مضى عليها قرابة ثلاثة عشر عاماً. وحدثت أيضاً وسط انقسام حاد، حيث السلطة موزعة بين الدولة السورية في المناطق التي تمكنت من استعادتها، وهي الجزء الأكبر من الأراضي السورية، وقد تضررت مناطقها من هذا الزلزال، لكن بنسب أقل بكثير من المناطق السورية الأخرى. إلى جانب سلطة خارجة عن سيطرة الدولة، مدعومة من تركيا. وسلطة «قصد» الكردية المدعومة من أمريكا.
هذا الواقع أضاف تعقيدات شديدة لعملية مساعدة المنكوبين، وإنقاذ الذين دفنوا تحت ركام المباني المنهارة، وتقديم العون للذين باتوا من غير مأوى وملبس ومأكل. فالتنسيق بين هذه الجهات لإيصال المساعدات اقتضى وقتاً طويلاً، في وقت كان مضي أي ساعة تأخير على عملية الإنقاذ، يعني الكثير من الخسائر. يضاف إلى ذلك، أن أمريكا وأوروبا ترددتا كثيراً، حتى الآن في تقديم مساعدة عملية لدعم المنكوبين، تحت ذريعة خضوع سوريا لقانون قيصر، الذي فرضته الإدارة الأمريكية، وتبارى الأوروبيون الالتزام به، والذي شدد الحصار الاقتصادي على سوريا. والنتيجة أن مواجهة تداعيات الزلزال في أيامه الأولى وقعت على عبء السوريين وحدهم، وبمساعدة من بعض الدول العربية والصديقة. وحين بدأت المساعدات في التدفق، كانت الخسائر في الأرواح وأعداد الجرحى ترتفع وفي الأغلب كانت النتائج ستكون مختلفة، لو أن سوريا كانت موحدة، ومحررة من قانون قيصر، الذي وضع الشعب السوري بأكمله في الأسر.
وفي كل الأحوال، ينبغي توجيه التحية والإعجاب للرجال البواسل، في تركيا وسوريا، الذين عملوا ليل نهار ومن دون كلل، أو توقف لمساعدة المنكوبين، في البلدين. فقد ضرب هؤلاء أعلى مثل في التضحية والفداء، وقدم كثير منهم أرواحهم، وهم يقتحمون المباني المنهارة في محاولة لإنقاء الضحايا، وباتوا في عداد الشهداء الأبرار. كما ينبغي تسجيل الثناء على الدول العربية التي بادرت، من غير منّة، إلى مساعدة الإخوة المنكوبين في سوريا وتركيا، وتضميد جراحات المصابين والمنكوبين.
لقد كشف الزلزال الأخير، عن حقائق مهمة، اعترفت بها الجهات المسؤولة في البلدين. فهذا الزلزال، على الرغم من قوته، ما كان له أن يؤدى إلى هذا الحجم من الخسائر لولا استهتار مقاولي البناء بأرواح الناس، وعدم الإيفاء بالشروط اللازمة لسلامة المباني. في هذا السياق، تم الكشف عن اعتقال العشرات ممن اتهموا في التسبب بالانهيار السريع للمباني، إثر وقوع الزلزال. وينتظر المصابون وعوائلهم، خضوع المقصرين والمتسببين في هذه النتائج الكارثية والمروعة، للمساءلة والعقاب، في غضون الأيام القادمة.
كما كشف الزلزال، حسب توصيف الكاتب البريطاني، ديفيد هيرست عن الوجه الحقيقي للغرب؛ حيث يتم تقديم الكثير من الدعم في مشاريع التدمير والحروب، بما لا يتكافأ بأي شكل من الأشكال، الاهتمام بالتعمير. لقد وفر الزلزال، لأدعياء الديمقراطية وحقوق الإنسان، فرصة ليظهروا للعالم أنهم قادرون على إعادة البناء مثل قدرتهم على التدمير.
وللأسف فقد بدأت أخبار المأساة تختفي، بعد ثلاثة أيام من وقوعها، ولا تزال عمليات الإنقاذ وانتشال جثث الموتى من العناوين الرئيسية لوسائل الإعلام الغربي. لقد بلغ الاستهتار مداه، لدى بعض العنصريين، بنشر مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية بعد يوم واحد من وقوع الكارثة رسماً كاريكاتيرياً يظهر مبنى مدمراً وسيارة مدمرة وكومة من الأنقاض مع التعليق: «لا داعي لإرسال دبابات»، وذلك بكل تأكيد، هو أبعد من مجرد رسم كاريكاتيري؛ إنه «سوء ذوق»، مغرق في كراهيته وعنصريته.