المجتمع والضغوط القصوى
الغبار المتطاير هو إعلان ولادة وعي، هو سحابة عابرة، يتبعها نورٌ متقدٌ، وفكر عازم على البناء والإصلاح ومد يد العون والتعاون مع الجميع، فكرٌ لن يستسلم للضغوط القصوى، ولن تزيده النار المشتعلة إلا اتقاداً وبصيرة..
يريدون منك أن تكون صورة مكررة عنهم، لا تخرج عن الصف الذي يضعونك فيه، وإذا ما رغبت أن تكون أنت، فحتى استقلاليتك هذه يجب أن تنتظم مع الجمعِ، فرأيك في خدمة الجماعة، لا يخرج عن طوقها، ولا يناقض أساسها، وإلا كنت ابناً عاقاً لا يستحق من الحاضنة الأكبر إلا النبذ والإقصاء!
الخوف من التفرد، المناقدة، التساؤل الذي لا يهدأ، الوردة التي ترمى في البركة، القدمان اللتان تعبران النهر، وصورة وجهك في المرآة.. هذا القلق من أن تشير بأحرف من حبٍ إلى موطنِ الألم، أن تقول إن النجاة ليست في أن نظل حبيسي الأدراج المهملة والمثقلة بالغبار والعناكب؛ أن تغمس القمر في الماء لتغسل وجهه عن السواد الذي لحق به، أن تزيح الطين عن الأرجل المتشققة لكي تجُد في المسير.. كل هذا، وأنت تُحملُ نفسك فوق طاقتها، وتحملُ عمن حولك صخرتهم الثقيلة، إلا أن كُثرا رغم ذلك، يبقون في الخلف، يرمون عليك حجارة من سجيل، والنبال المسمومة لا يسأمون من رشقك بها، فيما هم يشحذون عقولهم لا للتفكر فيما أثرت من سؤال، أو أنرت من قناديل، أو الحمد لما فتحت من أبواب، وإنما يشحذون تلك العقول لكي يشدوك أكثر وأكثر بالحبالِ، ويقيدوا فكرك الذي لم ترده يوماً إلا حراً طليقاً غير مرتهن لسلطة الطائفة أو القبيلة أو التقاليد أو الرتابة، فكل تلك السُلطات وسواها الكثير، ما هي إلا أغلالٌ، وأنت فتى ما أن يصحى في الصباحات العالية، حتى ينفض عنه من الأغلال ما استطاع!
الأكيد أن المهندَ المسلول لن تدعه ينغمس في قلبك، أو يثنيك عن دربك، أو يخيف عقلك، أو يجعل روحك ترتجفُ، فتعتذرَ نادماً، وتعودَ مستغفراً، لأنك بقدرِ ما لديك من الشجاعة على المراجعة والنقد الذاتي، لديك ذات المقدار من الاعتزاز بالذات والفخر بها. فخرٌ يجعلك تعرف مكانتك، ويثبتُ فؤادك، ويحميك من الوقوع في المناكفة أو الصغائر، دون أن يدانيك الغرور، أو يصيبك العُجب والزهو.
هي الضغوط القصوى، ما يعتقد البعضُ أن باستطاعتها أن توقف الخيلَ من المضي قدماً في ميدانها، يشغلونك بمعارك جانبية، يمنعونك مكعب السكر الذي يظنونه شهياً، وتعلم أنه مرٌ! يبتزونك عاطفياً، عبر العائلة والأصدقاء، ويحذرونك من أن الحبل السري بينك وبين أحبابك سينقطع إن ركضت برجلك في الميدان، وأنه الآن، الآن، وليس غداً، عليك أن تتوقف وتعود إلى مربعك الأول، ولا تبرحه، إلا متى ما أُذن لك، فالإذن لا يمنح للمتمرد الذي يثير الغبار!
الغبارُ الذي تعتقدون أنه يحجب الرؤية، ما هو إلا شيء من تلك الذرات التي تكدست لعقود وقرون على العقول، فكانت طبقاتٍ من الحجبِ المتراكمة، وما تطاير منها واستنشقته الأنفاس، ليس إلا ما تحرك جراء معولِ التنوير الذي جاء ليضرب السكونية القاتلة.
الغبار المتطاير، هو إعلان ولادة وعي، هو سحابة عابرة، يتبعها نورٌ متقدٌ، وفكر عازم على البناء والإصلاح ومد يد العون والتعاون مع الجميع.
فكرٌ لن يستسلم للضغوط القصوى، ولن تزيده النار المشتعلة إلا اتقاداً وبصيرة.
فكرٌ يعلم علم اليقين أن للتنوير ثمنا، وللاختلاف ثمنا، وأن بناء مجتمع يتمتع بالوعي، وأفراده يعيشون بقيمٍ مدنية حديثة، تحترم التنوع والتعدد والفردانية والحرية، كل ذلك له ثمنٌ، وهو رغم كلفتهِ العالية، إلا أنه يستحق أن نقدمه، بل يجب ألا نتأخر في ذلك، لأننا سنتجاوز شوك الطريق، لنصنع مستقبلَ وطنٍ قوي حديثٍ متجاوزٍ لكل الأنساق القديمة والرتيبة!