من دمقرطة العالم إلى «أمريكا أولاً»
في المقالات الثلاثة السابقة تناولنا التغيرات في مجرى السياسة الأمريكية، منطلقين من فرضيتين: الأولى هي تراجع دور المؤسسة الرئاسية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبشكل خاص منذ مطالع الثمانينات من القرن الماضي، لمصلحة الدولة العميقة، والثانية هي غلبة الاعتبارات الأيديولوجية، على قانون المنفعة الذي حكم السياسات الأمريكية لحقب طويلة.
وكان البروز الأقوى والأعنف لدور الأيديولوجيا، في توجيه السياسة الأمريكية، تزامن مع وصول المحافظين الجدد إلى السلطة، ووقوفهم خلف سياسات الرئيس جورج بوش الإبن. وكما أشرنا في مقال سابق، مثل إعصار سبتمبر 2001، محطة انتقال رئيسية في سياسة أمريكا الدولية، نقلت حروب الوكالة التي اعتمدها الرؤساء الأمريكيون منذ مطالع الخمسينات من القرن الماضي، إلى الحرب المباشرة، حيث شنت إدارة بوش حربين ضد أفغانستان والعراق، تحت شعار محاربة الإرهاب، وانتهت الحربان بانتهاك سيادة بلدين مستقلين، عضوين في الأمم المتحدة، واحتلالهما.
لم يتمكن المحافظون الجدد من تحقيق وعد جورج بوش الابن، بتغيير الأنظمة السياسية، التي وصفت بمحور الشر، بسبب اصطدام مشروع التغيير، بالمقاومة ضارية في العراق، للوجود الأمريكي، لكن الرئيس بوش، واصل وعوده بدمقرطة المنطقة والعالم، حتى انتهاء دورته الرئاسية الثانية.
وتسلم باراك أوباما، عن الحزب الديمقراطي، الرئاسة الأمريكية في مطالع عام 2009، واستمر في الحكم لدورتين رئاسيتين. وقد واصل أوباما سياسة خلفه بوش، في العمل على تغيير الأنظمة السياسية بالمنطقة العربية، باعتماد السياسة الناعمة، وتفجير ما عرف بالربيع العربي، في شكل حركات احتجاجية، كانت تونس محطتها الأولى، ولتشمل لاحقاً، في موجات سريعة متعاقبة بلداناً عربية أخرى. وتركز هدف «عقيدة أوباما» على تسليم ما تم توصيفه بالإسلام السياسي المعتدل السلطة، والإسلام المعتدل هو إشارة خاصة لتنظيم «الإخوان المسلمين». وكانت عشرية دم تسببت في مقتل قرابة مليون من البشر، وتهجير قرابة عشرين مليوناً من أوطانهم.
لا نساجل، في هذا السياق، ضد الحركات الاحتجاجية التي اندلعت منذ أواخر عام 2010، فتلك الحركات هي تعبير عن غضب كامن ومتراكم لشعوب عانت من عجز أنظمتها على محاربة الفساد. لكن مشروعية الحركة الاحتجاجية وتفهمنا لأسبابها، لا ينفي وجود أيدٍ خارجية، في مجرياتها، وفي مقدمها ضلوع إدارة أوباما في أحداثها، وتشجيعها لها، واعتبارها جزءاً من مشروع أوباما السياسي في المنطقة العربية، والتي وردت إيماءاته في خطابه التاريخي بجامعة القاهرة، قبل فترة وجيزة من اندلاع الحركة الاحتجاجية.
خلاصة القول في هذا المجال، إن «عقيدة أوباما»، وإن بدت مختلفة، تجاه الحركة الاحتجاجية في البلدان العربية، عن عقيدة المحافظين الجدد، لكنها في منهجها والنتائج التي تمخضت عنها ما عرف ب «الربيع العربي»، لم تكن مختلفة عنها في الجوهر.
وتنافس دونالد ترامب، عن الحزب الجمهوري، مع هيلاري كلينتون، المرشحة عن الحزب الديمقراطي، والتي أكد برنامجها الانتخابي، فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، أنه استمرارية لسياسة الرئيس أوباما المنتهية ولايته. أما ترامب فأعلن افتراقه عن سياسة الحزبين التقليديين، الجمهوري الذي ينتمي إليه وغريمه الديمقراطي، متبنياً سياسة تروم تحقيق عزلة أمريكا عن العالم، تحت شعار «أمريكا أولاً».
سياسة ترامب الخارجية، جاءت عن قناعة بأن مصدر الأزمة الاقتصادية التي عانت منها بلاده بالعقود الأخيرة، هو تدخلاتها الخارجية، وإرسالها الجيوش لاحتلال أفغانستان والعراق. وهي أيضاً، بسبب الأكلاف الباهظة، الناتجة عن حمايتها للدول الأوروبية، بما في ذلك القواعد العسكرية والمظلة النووية. وقد بلغ به الأمر حد التهديد بسحب الحماية الأمريكية عن القارة الأوروبية، أو قبول دولها بدفع تعويضات ضخمة مقابل الحماية.
ولم يتردد ترامب، عن مهاجمة سياسات نظرائه السابقين، من الرؤساء الأمريكيين، وصوّب هجومه على الرئيس بوش بسب احتلاله للعراق، وأيضاً على سياسات أوباما بسبب تسعيره العداء مع روسيا، مشيراً إلى أن المخاطر الاقتصادية على بلاده هي من الصين. ولم يتردد عن زيادة الضرائب على البضائع الصينية. ورغم أنه دعا إلى انكماش بالسياسية الدولية، لكن ذلك لم يمنعه من إلغاء الاتفاق الذي أجرته بلاده، في عهد أوباما، مع إيران والمتعلق بأنشطتها النووية. كما لم يمنعه ذلك، من تسعير الصراع، مع كوريا الشمالية، بسبب صواريخها الباليستية، بعيدة المدى، والقابلة لحمل رؤوس نووية.
ورغم ما يبدو على برنامج ترامب، من اتجاه عام نحو تبني سياسات براغماتية، لكن جل خطاباته حملت توجهات قومية متطرفة ونزعات عنصرية، تجعلنا مطمئنين إلى تصنيفها بالمواقف الأيديولوجية.