في لجج الطلاسم
لست أدري.. أنا أدري.. ليس يدري، عبارات تحمل في داخلها الكثير من التساؤلات والتشكيك والتناقضات، كما تحمل الإجابات والاضاءات، نهاية مقطع لكنها بداية استفهام وتعجب، نهاية معرفة وبداية غموض، نهاية تعثر وبداية وقوف، نهاية استقرار وبداية تشتت، فبين قول مبهم إلى حل طلسم كانت هذه العبارات مفاتيح الولوج إلى نص شعري شغل الناس إلى مدى بعيد ولا يزال، بين أخذ ورد وبين مؤيد ومعارض، إلى - الطلاسم - قصيدة شاعر المهجر الكبير إيليا أبو ماضي.
قصيدة ولا أروع تجلت فيها العبقرية بجميع سماتها، فبين الأدب الرفيع والفلسفة العالية والحوار العقلاني والتساؤل بين التذكير والتنكير، كان نسيج القصيدة حيث اتسمت برباعياتها السهلة الحفظ سلسة المعنى بسيطة التراكيب مما جعلها تأخذ مكانتها في عالم الشعر والأدب حتى عارضها الكثير ونسجوا على منوالها فازدادت رقيا ومكانة.
وبين تلك المعارضات الكثيرة، أربع معارضات اتسمت باسلوبها المتفرد، حيث الفلسفة حينا، والسخرية حينا آخر، والأدب ثالثا، والتوظيف رابعا.
وكان رد العلامة المرحوم الشيخ محمد جواد الجزائري «1298-1378ه» والمعروف بحل الطلاسم، فقد كان يختم كل رباعية بقولة أنا أدري وهو جواب لأبي ماضي في قوله لست أدري.
قصيدة في غاية الاتقان وذات عمق فلسفي كبير تحتاج لكثير من التأمل والتدبر والشروحات الكافية، ولذلك لم يتأت للكثير أن يدرك فحواها، فكانت أكثر تداولا عند الخاصة منها لدى العامة.
فيقول أبو ماضي في مطلع قصيدته:
جئت لا أعلم من أين لكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت
وسأبقى ماشيا شئت هذا أم أبيت
كيف جئت كيف أبصرت طريقي.. لست أدري!
فيرد عليه الجزائري بقوله:
دلني الإمكان وهو الرائد المتبع
أنني فيض وللفيض مفيض مبدع
فأنا عن واجب مقتدر مندفع
ليس لي حد سوى الفقر إليه.. أنا أدري
فهو للسيد مير علي أبو طبيخ «1308-1361ه»، ذكره صاحب شعراء الغري في الجزء السادس صفحة 350فقال: والمترجم له غني عن التعريف بشاعريته فقد جمع إلى نقد الشعر وفهمه قوة وابداعا في النظم والنثر.
يقول في رده على الطلاسم:
كم تركت الأرض رهوا وتسلقت السماء
أبصر الوحي فأقفو خطوات الأنبياء
وأرى الناس قرودا في صراط الأتقياء
كيف صار القرد إنسانا سويا... أنا أدري
ثم يقول في مقطع آخر:
وعن الأرواح سلني أنا فيهن خبير
نشأت من أي صقع وإلى أين تصير
لم أك استثنيت فيها غير أرواح الحمير
ولماذا عاقني جهلي عنها.. أنا أدري
وفي هذا التلميح ما يغني عن التصريح.
وكان ذلك رد الشيخ عبد الحميد السماوي «1315-1384» ذكره صاحب شعراء الغري في الجزء الثالث صفحة 291 وقال عنه: عالم جليل وشاعر شهير وأديب فذ.
واتسم رده بالصياغة الأدبية المتقنة في سلاسة اللفظ وجزالة التركيب وقوة المعنى وسعة الخيال وسهولة العبارة ودقة المجاراة، حتى لقد اذعن أبو ماضي لهذا الرد.
يقول الأديب الكبير الحوماني: هو الشاعر الوحيد الذي استطاع معارضة الشاعر أبي ماضي بما هوى أسمى شعورا وأروع شاعرية في موضوع يشق على المعارض الخوض فيه أضعاف ما يشق على المعارض للفرق الجلي بين الشك والإثبات. «طلاسم إيليا أبي ماضي - عبد الجبار الزهوي ص52».
يقول أبو ماضي في آخر مقطع من قصيدته:
انني جئتُ وامضي وانا لا اعلم ُ
أنا لغزٌ، وذهابي كمجيئي طلسمُ
والذي اوجد هذا اللغز لغزٌ مبهمُ
لا تجادل.. ذو الحجى من قال اني
لست ادري
فيرد عليه السماوي:
جئت لا أعلم إلا أنني جئت لأعلم
فتخطيت بكوني ساحة الكون المطلسم
حيث ساد الصمت لولا وحي عجماء لأعجم
حيث لا هامس يدعو وهو مثلي.. ليس يدري
ويقول أبو ماضي:
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجودْ
هل أنا حرٌ طليقٌ أم أسيرٌ في قيودْ
هل أنا قائدُ نفسي في حياتي أم مقود
أتمنّى أنني ادري ولكن
لست أدري!
فيرد عليه السماوي:
فشعوري بوجودي هو برهان الوجود
واضطراري في حياتي شاهد أني مقود
وكما جئت ابتداء سوف أمضي وأعود
فلماذا وهو ذو عقل وحس.. ليس يدري!
فبدلا من النفي أصبحت للإثبات، وبدلا من الإنكار دلت على الاستحقاق، وبدلا من التشكيك صارت للتأكيد، حيث اتخذ من قصيدة أبي ماضي جسرا وطريقا لمدح أمير المؤمنين الامام علي ، بأسلوب راق عرض خلاله صفات الإمام ومكانته وتشرف الكعبة بولادته، وفي ذات الوقت مميطا اللثام عن شبهات أبي ماضي وتساؤلاته.
والقصيدة للسيد علي النقوي الهندي «1325-1408ه»، قال عنه صاحب شعراء الغري في الجزء السادس صفحة 435: وصادف الذكاء المفرط عنده قبولا لهذا التوجيه «النظم» فانبرى يقرأ الكثير من كتب الأدب والشعر وحصل خلال عشرة أعوام على قابلية كان يستكثرها عليه الكثير من أبناء العرب.
أشرقت طلعة نور عمت الأرض ضياءا
لا أرى بدرا على الأفق ولم أبصر ذكاء
وتفحصت فلم أدرك هناك الكهرباءا
فبماذا ضاء هذا الكون نورا.. لست أدري
قمت أستكشف عنه سائلا هذا وذاك
فرأيت الكل مثلي في اضطراب وارتباك
واذا الآراء طرا في اصطدام واصطكاك
وأخيرا عمها العجز فقالت: لست أدري
واذا نبهني عاطف في الحب دفين
وتظننت وظن الألمعي عين اليقين
إنه ميلاد مولانا أمير المؤمنين
فدع الجاهل والقول بأني لست أدري
لم يكن في كعبة الرحمن مولود سواه
إذ تعالى في البرايا عن مثيل في علاه
وتولى ذكره في محكم الذكر الإله
أيقول الغر فيه بعد هذا لست أدري
اقبلت فاطمة حاملة خبر جنين
جاء مخلوقا بنور القدس لا الماء المهين
وتردى منظر اللاهوت بين العالمين
كيف أودع في جنب وصدر لست أدري
أقبلت تدعو وقد جاء بها داء المخاض
نحو جذع النخل من الطاف ذي اللطف المفاض
فدعت خالقها الباري بأحشاء مراض
كيف ضجت؟ كيف عجت؟ كيف ناحت؟ لست أدري
لست أدري غير أن البيت رد الجواب
بابتسام في جدار البيت اضحى منه باب
دخلت فانجاب فيه القشر عن محض اللباب
إنما أدري بهذا غير هذا لست أدري
ابتسام ولا كأي ابتسام فبقي ذلك الشق في جدار الكعبة المشرفة آية ومعجزة ودلالة واضحة على سمو وشرف ذلك المولود وعظم مكانته حيث حظي بشرف لا سابق له ولا لاحق معه ولا متقدم بعده فكان بحق وليد الكعبة، وإمام الزمان، ولكن كيف حاد الناس عنه.. لست أدري.