آخر تحديث: 24 / 4 / 2024م - 11:56 م

التوكل والتواكل.. في كفتي ميزان.. حدثٌ وحديثٌ ”37“

عبد الله أمان

تَندَرِج اللّفظتان المُتناغِمتان التوأَمَان ”التوَكَّل والتوَاكُل“ في جِناسٍ لُغويٍ ناقصٍ؛ وتَتباعَدان تَضادًا، في دَلالَةِ المَعنَى؛ وتَتنافَران في بَيانِ المَقصَد؛ وتَختلِفان حُضُورًا في مَصدَر المَورِد… وأتجرّأُ هُنا بتصرّفٍ ذاتيٍ مُتواضِعٍ، بتشبِيهِهما بضفّتي نَهرٍ جَارٍ، إحداهُما قَريبة مَرئِية، والأُخرَى بَعيدة قصِية، عَن مَرأَى النظر… فَالناظِر المُنصِف المُتأمّل في هَامِش الضفّة القريبة، يَرَى ويُدرِك أَريحِيةً، مَا يَحوِيه أصَالةً، مَحطّ طَبيعتِها الصامِتة… ورُبمّا لَا يَتطابَق نَسَق طبيعتها؛ ولا يَتوافَق نَضَد مُحتوَى الوسَط المَكانِي الأَسَاس لِمظهَرِ وهَيأةِ تِربِها، الضفّة البعيدة المُتناظِرة، جُملةً وتَفصِيلًا!… فالتوكّل هُو إِظهار الاعتماد؛ وتَفوِيض الأَمْر المُؤمّل، والرضَا الذاتي بالتصرّف؛ وإبداء غَلَبة الاستسلام؛ ومِنه تَوسُّعًا: التوكل على الله البَارِئ المُنشِئ، والركُون إلى قُدرتِه القادِرةِ بواسِع حَضرتِه؛ والمُبادَأة بالبَوحِ الذاتِي بالضّعفِ والعَجزِ في أَحضَانِ كَنفِه… «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» * أمّا التواكلُ الشخصي، فَهو إِبدَاء التكاسُلِ؛ وإِظهَار التثاقُلِ، في خُمولٍ وجُمودٍ ظاهِرين؛ والاعتمادِ الكُلّي على سَواعِد الغَير، دُون بَذلِ سّعيٍ يُلاحَظ؛ أو تَحرِيكِ مَجهودٍ يُذكَر…

هَذَا، ومِن مَحاسِن التوكل الإيماني الواثِق، بنِيّةِ الهِمّةِ الصَادِقةِ، أنّه وِعاءٌ للسعَادة؛ ورِداءٌ للرضَا؛ ووِقاءٌ مِن غُرُورِ هَوى النفْس وغِوايتِها؛ وحِمايةٌ حَافظةٌ مِن شَتّى وسَاوِسِ وحَبائِل الشيطان… ولَعلّ مُرتَكَزَ أركانِه الأَسَاس، تَتمثّل في بِناءٍ مًوطّدٍ في: بَثّ بِنيةِ الثقَةِ الراسٍخةِ، في سُكُونِ النفسِ؛ وغَرسِ بُذُورِ اليّقِين الحَصِين، في دَرُوب المَسعَى؛ وإِشَاعَة رُوحِ الطُّمأنِينة، في سُويدَاء القلب… وفي جَميعِ أركان ومُكتسبَات أطياف؛ وزوايا مُكتنزَات أصناف نُخبة تلك المَحاسٍن الفُضلَى، ومِثلها: صَفوة تلك الفَضَائل المُثلَى، اللّتان تّتمَظهران حُسْنًا؛ وتَتبَلوران أَصَالةً، بصَفاءِ الارتياحِ الظاهِر؛ وتَتبرقَعان أَناقةً بنَقاءِ السّرِيرَة البادِية؛ وتَكتحِلان تَبرُّجًا بتمامِ وكمالِ الزّينَة...! وقَد يّظنّ بَعضُ الناسِ، أنّ سِمةَ التوكل هِي السيرُ المُتخبّط في ظُلمةِ طَريقٍ وَعِرٍ عَسِرٍ، غير أنّ مَسارَها الواعِي المُسدّد، مَرهونٌ بالأََخذِ بمَقاليدِ الأَسْباب العقلية؛ واقتفاءِ أَسَالِيب السعي الدؤوب المَنطقِية، بجِنانِ نفسٍ نُصُوحٍ مُطمئنّةٍ؛ ونَفرةِ وُجْهَةِ الاجتهادِ العَزُومِ، المُتسلّحَتين بمِجهَرِ رُؤيةٍ صَادقةٍ جَادةٍ، نحو تَحقِيقِ وإنجازِ عَملٍ مَا… ألا وإنّ أَرقَى وأَسمى أنواع سِمَة التوكل قاطِبةً - بَعد الأخذ بمنظُومَة الأسباب العقلية المنطِقية - هُو التوكل عَلى قُدرَةِ الخَالِق البَارِئ، الذي لَا تَضِيع أقل وَدائعِه؛ ولا تَتَبدّد أدنَى صَنائعِه، ولاتَضِيق وَاسِع رَحمتِه؛ ويَحلُو لي أَنْ أتمثّل هُنا بحَديثٍ شَريفٍ لنبيّنا المُصطفَى الكَرِيم، عليه وعلى آلِه الطيّبين الطاهِرين، وصَحبِه الغُر المَيامِين، أفضَل الصلَاة وأتمّ التسلِيم: «لَوِ اتّكَلْتُمْ عَلَى اللهِ حَقَّ الاتِّكَالِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وتَرُوحُ بَطَانًا» *…!

وَأَمّا سَقَم التواكل المُزمِن، فهو عَرَضٌ دَائم، ومَرَضٌ عُضَال، في الوقتِ نَفسِه؛ وقد يُزيّن أثر صَدَاه الخَانِق المُهلِك لِتقاعُس النفْس الخائرة، بمظاهِر صُنُوف الراحةِ المُسترخِيةِ؛ ويُرغّبها في عُمومِ التمتّعِ بأحوَالِ السكَونِ الكاذبةِ؛ ويَستحِثّها بحَصدِ رَيعِ ثِمارِ الوعُودِ المزيّفةِ، فِي عُقر مَخبَأ الاستَكَانة الضعِيف، ومَلجَأ التقَوقُع ”العَنكَبوتي“ الوَاهِن… ومِن نافِلةِ نَسجِ القولِ الرزِين، وحِكمةِ نَهجِ الفِكرِ الرصِين، المُجاهَرة والمُكاشَفة، بأَنَّ استِفحَالَ رَيْن رُوح الانهزامِية البغِيضَة؛ واشتِدادَ رِيْحِ نَفَسِ السودَاوَية المُعِيبة هُما ذِراعَا مُحرّكِ دَفعٍ أَسَاسِي فَعّال؛ لِسرمَدةِ كَوامِن حَلقّاتٍ مُتداخِلةٍ مِن سِلسِلةِ التواكلِ الصّدِأةِ الهشّةِ في بِنيتِها، والمُنحَنِيةِ في طُول استقامة خَامَتِها: كالتّقوقُع، والتثَاقِل إِلى الأَرض؛ والتولّي بالإِدبَار؛ والصّدُود والإِعرَاض عَن سَماعِ وقَبُولِ دَعوةِ الحقّ…!

وفِي صَدَدِ صِرَاعِ ”التوكل والتواكل“ السِّجَال، يَتوارَد إلى سَنام ناصِيةِ ذِهني الحاضِرة، صَفٌ مُجنّدٌ مِن مُؤتلفِ ومُختلفِ المَوارِد؛ ومِن شَتّى أنماطِ الشّوارِد… ويتَصدّر في قائمةِ مَوائدِها ”الدّسِمة“ بَثٌ حَيٌ مُباشِر مٍن صَيدٍ ”دِرامِيٍ“ تليدٍ؛ تدور رِحاهُ على صَعِيد مَسقَط رأسِي - جَزيرة تاروت - العَريقة، ويَكادُ صَدَى ذِكرَاه المُجَلجِل، يَخطِف الأَلباب، وقد مَثُلَ أصَالةً؛ وانتصَبَ لَياقةً، أَمَام ناظٍري، دُون استئدانٍ مُؤدّبٍ، أو انتظارٍ مُهذّبٍ، لهُنيهةِ مُجَامِلةٍ، قبل فُسحةِ إِذنِ الدخُولِ الوِدّي المُرحَّب به، إلى مُتّسعِ ثَنايَا سَاحةِ فِكري المِضياف الرحْبة… ألَا وهو مُسَلسَل حِكايَة ”الغُوص“ المَرِيرَة، بكَامِل فِقرات مَشاهِدِها المُقلِقَة، وجُزئيات مَظاهِرِها المُحيّرَة، وأَدَقّ حَبكةِ تَفاصِيلِها الشائكة، بقَضّها وقَضِيضِها؛ وقَد استرَقْت ”بُؤرَة“ التأمّل والتحَدّق ذات مَرّةٍ، في سَاعةِ يَقضةِ مُتابعتِي القَسرِية، لحَبكةِ الحَدَثِ الدّرامِي المُتنامِي: خُروجُ جُموعٍ زَاحِفةٍ مِن صُفوفِ النساء المُواسِية؛ ومِثلهنّ أعدادٌ مِن شُخُوصِ الأَطفالِ البريئةِ، في حُلَلِ مَراحِل أعمارِهم المُختلِفة، وقَطراتِ الدمُوعِ الساخِنة تَنهمِرُ بإسرافٍ مَرئيٍ مِن مُتّسعِ مَآقِيهم البرِيئةِ؛ وتَنسَاب بحُريّةٍ ذَاتيةٍ على مَساقِطِ خُدودِهِم الندِية؛ ليِودّعُوا صُفوفَ الغوّاصِين المَهرَة، منِ ذَوِي السواعِد السمرَاء المَفتُولة، فِي غَمرةِ لُجّة ذلك الزَّحام الدرامي المَحتُوم… وهُناك على مَشارِف شَاطِئ البحر الأَزرَق المُتلألِئ، لَن أتمَالك نفسي لِلَحظةٍ؛ وأبخلَ بذرفِ دَمعةٍ سَاخنةٍ عَطُوفٍ، أُسكِبها مُواسِاةً ذاتيةً؛ وأُبدِيها وَفَاءً مُستَحقًا مُماثِلًا لِكَفكَفةِ دُمُوع جُمُوعِ النساء والأطفال، وأَنا أنضّد بعِنايةٍ مُتأنّية مُفردات نَسَق دِيباجَةِ خَاطِرتي المُتواضِعة، إلى مَن ضَاقت بِهم شُحّ ضنك سُبُل المعِيشة الكرِيمة؛ وأضنَاهُم أَلم شَظَفُ العيش الجاثِم في دَيارِهم الآمِنة؛ وأرّقهُم تباطُؤ حُضُور قَصْعَة غدائهم الراتِبة؛ ونَدَرَت في عُقرِ دِيارِهم كِسراتٍ لُقمة العيش الهنيّئة… وعَلى صَعيدِ النقِيضِ الدرامي المَرئي، مِن تَنامِي حَبكةِ الحُزن؛ وتفاقُم ذُروَةِ الأَسَى؛ وتَصاعُد لَوعَةِ الحَسرَة الظاهِرَات تلازُمًا وقِراءةً، عَلى وَضَح صَفَحاتِ الوجُوه؛ وفي أفئدةِ النساء؛ وعلى نَضَارةِ جِبَاه الأطفال؛ إلَّا أنَّ صُفُوف الرجَالِ المَهرَةِ المُتطوّعِين الصامِدين للنزُول صَوبَ أمواجِ البحرِ؛ والمُقتحِمين، بحَماسَةٍ وجَسَارةٍ، لُجّتِهِ الغادِرَةِ… تَراهُم - في رَباطَةِ جَأشٍ، وثَباتِ عَزيمةٍ - لن يَعبؤوا ”بنَوبات“ المَخاوِفَ المُحدِقةِ بِهم؛ أو يَفزَعُوا - بصفاءِ تَوكلهِم على ربّهِم - لِهَولِ مَصيرِهِم الدرامِي المُرتَقب…!

وإِذا كانت حَالةُ التوكُل المُستسلِمة، باليقِتينِ الإيماني الصادِق؛ وحَالُ نَقيضَتِها سِمةُ التكاسُل المُذعِنةِ المُتثاقِلةِ إلى الأرضِ المَيْتَةِ؛ والقابِعةِ في عُمق وَحْلِ صَعَيدِ ثرَاهَا الطّمِي استيحَالًا لَازِمًا… فالتوكّل الصادق - بأسفاطِ جَواهِره الثمِينة المَكنُونةِ - مُعلّقٌ في أعَالي أُفق الثُريّا، بفيضِ أصَالةِ مَحاسِنهِ العَطِرة؛ وتَمامِ نقَاءِ مَزاياه النّضِرة، بعد أنْ تنفّس الساعِي المُتوكّل على ربّه، عَبَق الصّعْداء مِرارًا؛ وتنهّد بجِدٍ واجتِهادٍ تَكرارًا؛ وشّمّر عَن سَائر عَضلَات سَاعِدَيه المَفتولَة بأَريحيةٍ ذاتِيةٍ مُواضِبةٍ، بالأَخذِ بجَوهَر أسباب سَعيهِ المُسدّدِ، بعَينٍ مُبصِرةٍ، وأُذنٍ وَاعِيةٍ، وجَوارِحَ مُستيقِظةٍ؛ وتَوكلٍ مُتفَائلٍ - في جَميعِ أُمُورِه الحَيوِية - على الحَي الذي لَا يَمُوت؛ والذي يَعلَم مِثقالَ ذَرّةِ العَمل الخيّر الصالِح، ومِثله العمل الآثِم الطالِح... وهُنالك تَتأرجَح كَفّتَا المِيزان العادل، بتَجَافٍ ونُفُورٍ بَادِيَين، لَا تَلوِيانِ على ثَباتٍ يُذكَر… وبالله العَون؛ ومِن فَائق بَركتِه؛ وعِزّةِ جَلَالهِ، نَستلهِم التوفِيق المُؤزّر؛ ونَسأله - تَبارَك وتَعالَى - طريقَ الهِدايةِ المُسدّدَةِ… وعلى اللهِ فليتوكلِ المتوكلون!

* سورة الطلاق، آية 3
* موسوعة روائع الحكمة والأقوال الخالدة، ص 177