آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

أوجاعنا والسلام الداخلي

ياسين آل خليل

يتحدث أهل الرأي عن أن سبب تعاسة الناس، هو تشتتهم بين الماضي والمستقبل وعدم تركيزهم على الحاضر وعيش اللحظة بكل أبعادها. ماذا لو آمن أحدًا بهذه الأطروحة وتمكن من عيش الحاضر، دون أن يلتفت إلى الماضي أو المستقبل، لكن على حين غفلة، نزلت عليه الأوجاع من كل حدب وصوب. أليست الأوجاع شعورٌ آني..! كيف لهذا الفرد أن يجمع بين محاولته في أن يعيش اللحظة ويسعد بها، أو أن يتعايش مع نوائبه وآلامهِ الآنية..؟

كبشر، جُبلت أرواحنا وأجسادنا على مواجهة الأشياء والأحداث بوجهَيها المُشرق والبشع. من المفارقات أننا عندما تشرق الدنيا لنا فإن القليل منا الشكور. لكن عندما تكشر عن أنيابها وينتابنا شيئًا من وخزها، فإننا نسارع في الصراخ والعويل. الألم ليس أكثر من مقاومة داخلية ذاتية للأشياء التي عادةً ما نرفضها، ولا يمكننا بأي حال تغييرها، لأسباب نجهلها.

على كثرة عدد الساعات التي نقضيها كل يوم في أذهاننا، إلا أننا للأسف، نجهل أنفسنا بشكل لا يمكننا تصوره. العديد منا مأخوذون ومشغولون بالماضي، لكننا لم نلتفت ولو لوهلة إلى أن هذا الماضي بعينه، كان في وقت ما حاضرًا شاخصًا أمام أعيننا ولم نحرك ساكنا لتَغييره.

لا ضير هنا أن أطرح بعض الأمثلة لأقرب الصورة للقارئ الكريم. عندما كُنْتَ سليمًا مُعافى، كيف كان شعورك ذلك الوقت..؟ هل كنت تشكر الله صبح مساء، أن اصطفاك بتلك النعمة التي لا تقدّر بثمن..؟ هل أسعدت نفسك والآخرين من حولك لأنك كنت في أوج صحتك وغناك وعنفوانك، أو أن الوقت مضى دون ان تلتفت أو تشعر، ولو لثوان بسيطة، بما كنت عليه من خير، حتى بدأت تلك النعمة في التلاشي ومن ثم بالزوال إلى غير رجعة!

جانب آخر من جوانب الألم الذي يصنعه المرء لذاته هو «الألم النفسي» وأسبابه عديدة، سأطرح مثلًا يَجري على جميع الناس وهو «ألَمُ الفراق». من منّا لم يفقد عزيزًا عليه. ان لم تفقد إبنًا فقد فقدت أبًا أو أخًا أو زوجًا وجميعهم لهم مكانتهم الخاصة في قلوبنا.

الفقد قبل ساعات أو أيام من حدوثه، لم يكن شيئا حاضرًا في أذهاننا حتى وقعت المصيبة. أما قبل الفقد فالذي فقدناه لم يكن ميّتا حينها، بل حيّا يعيش بيننا كبقية الأحبة، أطال الله في أعمارهم وأعماركم جميعًا. السؤال: في تلك الأيام أو السنوات التي سبقت الفقد، ماذا كان دَورُك.. وهل كنت سعيدًا وممتنًا لتلك النعمة قبل فقدها..! هل كان لتواجد ذلك الشخص مكانة وحضورًا له بين جنبيك..؟ أو أن وجوده لم يكن شغلك الشاغل..! لأننا للأسف لا نعرف قيمة الاشياء الا عند فقدها.

قبل اثني عشر عامًا وتحديدًا في هذا الشهر الكريم، شهر رجب، فقدت ابنًا في حادث سير وهو متوجه إلى جامعته التي يَدرُس فيها في الولايات المتحدة. صحيحٌ أن الإنسان يمكن أن يفقد عزيزا له في أي وقت من الأوقات، لكن هذا الشعور لا يراودنا، حتى تقع المصيبة وتبدأ رحلة الألم التي لا أمَدَ لانتهائها، فهي تتجدد في كل مرة يخطر ذلك الحبيب لنا على البال. ما يخفف من هَول المصيبة، هو أننا نحتسب ذلك الفقد بعين الله، وأنه رحمة الله عليه قد وَفَدَ على ربٍ كريم.

كم مرة شعرنا بالضيق، دون أن نكون قادرين على تحديد السبب؟ فقط لو خَصّصنا بعض دقائق من كل يوم في التفكير في نعم الله التي تغمرنا والتي لا تُعَدُ ولا تُحصى، لَتَدَبرنا أمور حياتنا اليومية بكفاءة وتمكنا من تحديد قيمتها الحقيقية. أما وأننا قد تهنا مع التائهين، تبدلت أحوالنا وصرنا نعيش هذا الواقع المر، الذي ندمّر فيه أنفسنا بشكلٍ قهري، دون التفاتة أو وَعْيٍ يُذكر..!

اذن، حتى لو أراد الإنسان أن يعيش الحاضر بكل تفاصيله، فإن بعض مشاعر الحزن والألم تلاحقه من حيث لا يحتسب. الفقد ليس بالأمر الجديد علينا لأنه واقعٌ نشهده يوميًا. لذلك، علينا كبشر أن نبحث عن ما يمكن أن يهوّن علينا مصائبنا. رحلة البحث هذه لا تبدأ بَعد الفقد، إنما قبله، بل قبله بسنين عديدة..! للأسف لا يسعني أن أوضح أكثر في هذه العجالة.

نصيحة من مُحب، بعد أن تَعلمتَ بعض الأمور عن نفسك ومن تجارب الآخرين، يمكنك الآن مواجهة زلاتك بصدق. انظر إلى كل موقف على أنه تجربة تعليمية، تضيفها لمَخزونك المَعرفي حتى تُثْري حياتك بِكل ما هو إيجابي، عسى أن تتمكن في النهاية من أن تجد السلام الداخلي الذي تبحث عنه. السلام الداخلي هو معرفة أنه بغض النظر عما يحدث من حولك من إثارة، يمكنك أن تظل هادئًا ومُسيطرًا. ليس فقط للحظة، ولكن في كل لحظة من عمرك المديد.