آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 1:06 ص

النفوس المعطاءة بين يدي الإمام الجواد (ع) ‎‎

لابد من وقفة مهمة مع معنى كلمة الجود أولا ليتبين لنا تمييزها عن بقية مستويات العطاء والبذل، فالعطاء هو بذل شيء من فاضل المال لمواساة المحتاجين وتخفيف وطأة الاعتياز عنهم، ولكن مرتبة الجود تتميز بمبادرة المنفق للبحث عن حالات الآخرين حتى يجد الفقير منهم فيقدم له ما أمكنه، فلا ينتظر الجواد أن يطرق المحتاج بابه ويفصح له عن سوء حالته المادية ومعاناته من افتقار بيته للضروريات من المستلزمات، بل روحه المعطاءة تجد سعادتها وراحة البال في الوقوع على آلام الآخرين لبلسمتها، ويتحرك بهمة ونشاط في تفقد أحوال الآخرين ويتحرى دون أن يمس كرامة أحدهم أو يخدش ماء وجهه، وبذلك تكون مرتبة الجود أعلى من درجة الكرم إذ يتفقان في حالة قضاء حاجة الغير ويختلفان باختصاص الجود بالمبادرة لا انتظار قدوم الفقير، إذ المتعفف مع حاجته الماسة للمساعدة وتألمه من حالة الفقر المزري ولكنه يأبى أن يظهر صريح حاله للآخرين ويفضل أن يتحمل العازة على إراقة ماء وجهه أمام الغير، ولن يجد نصيرا في مصاعبه المادية بعد الله تعالى إلا أولئك الذين يمتلكون قلوبا بيضاء ومشاعر رقيقة، ممن تخلصوا من ربقة الأنانية وبعدهم عن الاقتصار في كل مواقفهم وخطاهم على ما يجلب لهم المنفعة الذاتية، وأما أولئك الذين فقدوا روح المشاركة الوجدانية ومواساة من حولهم زاعمين بذلك الحفاظ على مصالحهم ومستقبلهم وعدم تضييع الجهود والأوقات، فإنهم قد خسروا في الآخرة ثوابا عظيما وبابا مفتوحا على مصراعيه لم يلجوه، وأما في الدنيا فقدوا هويتهم وكرامتهم وإنسانيتهم بعد أن سحقوها بتسافلهم إلى الحياة البهيمية فلا هم لهم سوى شهواتهم.

وإمامنا الجواد لقب بهذا اللقب الذي اشتهر به لأنه إمام العطاء، إذ انفتح على حاجات الناس بكل ألوانها ليكون عونا للناس ومواسيا لهم في نوائب الزمان، فالبعض يقصر مفهوم العطاء على الجانب المادي وتقديم شيء من المال للمعتازين، والجانب المالي وإن كان مهما ويعد تجليا واضحا لأصحاب النفوس المعطاءة، ولكن العطاء مفهوم شامل يجمع كل ما يحتاجه الآخرون من الجانب العلمي والاجتماعي والأخلاقي والتربوي، وإمامنا الجواد جعل ذلك العمر القصير ميدان كفاح ومثابرة فلا يألوا جهدا إلا وبذله في سبيل مساعدة الناس، مجتازا كل الظروف الصعبة التي عايشها وعانى منها فتكيف معها وانطلق في طريق التكليف لإرشاد الناس والأخذ بأيديهم نحو نور الهدى والتكامل والرقي الأخلاقي، فعلى المستوى المعرفي والتعليمي كان الإمام يقود هذه المسيرة من خلال بث تعاليم الشريعة الغراء وبيان الأحكام الشرعية واستخراج المضامين للآيات القرآنية، وهذه كلماته النيرة تشهد بما كان عليه من حضور مستمر مع الناس، بل وكان أعظم البركات في بيان مكانة الإمامة من جهة استلامه لهذا المقام وهو طفل صغير، وقد توهم المتوهمون أنه لا يحسن الإجابة على المسائل المستعصية كآبائه الطاهرين، ولكن ظهر على يديه المعارف الكثيرة فلم يحر جوابا أمام أي مسألة، مما أكد لدى الجميع بأنه مسدد وحامل لعلوم آبائه، بل وواجه تلك الدعاوى الزائفة والشبهات العقائدية المطروحة في الساحة العلمية وجنب الماس ضلالا بسببها.

وعلى الجانب الاجتماعي كان الإمام حاضرا مع الناس في كل همومهم المعيشية وضنك الحالة المادية الذي يلفهم، وقد ورد أنه كان يرسل لأهل المدينة سنويا ألف ألف درهم مع أنه كان بعيدا عنها، وهذا الوضع المادي المزري للناس واتساع رقعته بشكل غير مسبوق وتفقد الإمام لهم هو ما جعل لقب الجواد نجما لامعا في ميدان العطاء واشتهر به، وإن كان آباؤه كلهم جواد ولكن العصر الذي عاشه الإمام التقي امتاز بهذه الظروف المادية المضنية، فقد كان الإمام ملجأ للمحتاجين والمحرومين يلوذون بعطائه ولطفه فيقصدونه بحوائجهم.

ومن المهم الاقتداء بالإمام الجواد وأخذ الدروس من عطائه، وذلك بصناعة شخصياتنا بعيدا عن الأنانية مع الانطلاق في ميدان مساعدة الآخرين والتخفيف عن آلامهم، وتشييد معالم سيرة التكافل والتكاتف الاجتماعي من خلال تفقد أحوال الضعفاء والبحث عن حالاتهم واستقصاؤها، وتقديم المساعدة لهم على المستوى التعليمي والتربوي والنفسي، وصفة الجود لا تتوقف على الإمكانيات المادية الضخمة بل تعتمد على الروح المعطاءة والعاملة في ميدان سد الحاجات.