قصيدة الشطر الواحد
تعد العرب القصيدة مما تألف من ستة أبيات وأكثر على اختلاف الآراء، غير أن البيت الواحد قد يكون قصيدة في ذاته بما يحمله من معنى ويتضمنه من تركيب متسق، وقد يكون ذلك للشطر الواحد أيضا، فكم من شطر سار به الركبان وتغنى به الناس واستشهد به أهل العقول وأصحاب الذوق في مواضع عدة.
فمن الأبيات التي تعادل قصيدة لقوة مضمونها وسلاسة تركيبها قول المتنبي مثلا:
ما كل ما يمتنى المرء يدركه... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
أو كقوله أبضا:
ومن العداوة ما ينالك نفعه... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
أو كقول الجواهري:
وللكآبة ألوان وأفجعها.... أن تبصر الفيلسوف الحر مكتئبا
أو كقول شوقي:
وما نيل المطالب بالتمني.... ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
أما الشطر الواحد فينقسم إلى قسمين:
أولهما: ما يحمل بعض المضمون ويستعين بشطر آخر يقاسمه تمام المعنى أحيانا.
وثانيهما: ما يكون مكتفيا بنفسه غالبا.
أولا: الشطور التي تحمل معنى وتتم وتتناسق بشطر آخر يضفي عليها الكمال وتبلغ به الكفاية ما يطلق عليها ابيات الإجازة.
يقول ابن رشيق: وأما الإجازة فإنها بناء الشاعر بيتاً أو قسيماً يزيده على ما قبله، وربما أجاز بيتاً أو قسيماً بأبيات كثيرة.
ويمكن أن نضيف أن من ذلك أيضا، ما يطلبه شاعر أو أمير أو خليفة من اتمام شطر البيت بشطر آخر لا يقل عنه معنى ومبنى حتى يكتمل في ذهن السامع.
ويقول ابن رشيق مما أجيز قسيم بقسيم «أي شطر بشطر» قول بعضهم لأبي العتاهية:
أجز
برد الماء وطابا
فقال:
حبذا الماء شرابا
وأما ما أجيز فيه بيت ببيت فقول حسان بن ثابت وقد أرق ذات ليلة فقال:
متاريك أذناب الأمور إذا اعترت *** أخذنا الفروع واجتنبنا أصولها
وأجبل، فقالت ابنته:
يا أبت، لا أجيز عنك، فقال:
أو عندك ذاك؟ قالت:
بلى، قال:
فافعلي، فقالت:
مقاويل للمعروف خرس عن الخنا *** كرام يعاطون العشيرة سولها
ومن ذلك أيضا، القصة المشهورة للمعتمد ابن عباد، فقد أورد صاحب كتاب - الدر المنثور في طبقات ربات الخدور - قوله: إن المعتمد ركب في النهر ومعه ابن عمار وزيره وقد زردت الريح النهر فقال ابن عمار لوزيره: أجز «صنع الريح من الماء زرد». فأطال الوزير الفكرة فقالت امرأة من الموجودات على ضفة النهر: «أي درع لقتال لو جمد».
فتعجب ابن عباد من حسن ما أتت به مع عجز ابن عمار ونظر إليها فإذا هي غاية في الحسن والجمال فأعجبته فسألها: أذات بعل أنت؟ قالت: لا، فتزوجها وولدت له أولاده الملوك النجباء.
صنع الريح من الماء زرد، وصف رائع وخيال مبدع، حيث استطاع الشاعر بحسه المرهف وشعوره المحلق أن يصنع صورة في غاية الابداع فقد حول تكتلات الماء حين لامستها نسمات الريح إلى ما يشبه درع المقاتل المنسوج من حديد تداخل مع بعضه البعض على شكل سلاسل متقنة الصنع، وهو صح أن يكون درعا لو جمد!.
فيلاحظ أن شطر البيت بمفرده صنع لوحة فنية جميلة ولكن ينقصها الإطار لتكتمل به بهاء ونضرة، ولابد لهذا الإطار أن يتناسق معها شكلا ومضمونا وإلا أصبحت مرتعا للعيوب بدلا من أن تكون مسرحا للجمال تسر الناظرين، وهنا يأتي دور الشاعر البارع صاحب البديهة السريعة والنظرة الثاقبة اللماحة والصياغة المتجانسة لفظا ومعنى فينسج على المنوال ما تتم به الفكرة وتكتمل الصورة في أبهى حلة.
وليكون المعنى والتركيب اكثر قبولا لابد أن يكون أكثر موافقة واتماما، وإلا فلن يكون متجانسا فيظهر فيه الضعف والعجز وعدم التناسق ومن ذلك مثلا ما أورده أبو هلال العسكري في الصناعتين، فقد روى:
أخبرنا أبو أحمد الشطني، قال: حدّثنا أبو العباس بن عربي، قال: حدثنا حماد عن يزيد بن جبلة،
قال: دفن مسلمة رجلاً من أهله، وقال:
نروحُ ونغدُو كلَّ يومٍ وليلة
ثم قال لبعضهم: أجز، فقال: ”فحتّى متى هذا الرواح مع الغدو“ فقال مسلمة: لم تصنع شيئاً. فقال
آخر: ”فيالك مغدى مرة ورواحا“ فقال: لم تصنع شيئاً. فقال لآخر: أجز أنتَ، فقال:
"وعمّا قليل لا نروح ولا نغدُو
فقال: الآن تمَّ البيت.
فبعد مد وجزر وشد وجذب واقوال عدة لم تقنعه لعدم تناسقها وتطابقها مع ما يريد، انبثقت في اللحظة الأخيرة فكرة أحدهم فكانت كالشعلة الوقادة التي اهتدى بها فارتضى منه ذلك.
ثانيا: الأشطر تامة المعنى متناسقة المبنى قوية السبك بليغة التراكيب، حفظها الصغار واستشهد بها الكبار وسارة على السن الناس وكانت مواضع استشهاداتهم في ما وافقها من مناسبة أو سار معها من حدث فهي من الكثرة والوفرة التي لا تحصى منذ الشعر الجاهلي إلى يومنا الحاضر، فمنها على سبيل الاستشهاد لا الحصر:
كقول زهير ابن أبي سلمى: ومهما تكتم الله يعلم
وكقول طرفة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وكقول الفرزدق: لولا التشهد كانت لاؤه نعم
وكقول المتنبي: وخير جليس في الزمان كتاب
وكقول أبي فراس الحمداني: لنا الصدر دون العالمين أو القبر
وكقول حيص بيص: وكل إناء بالذي فيه ينضح
وكقول الرصافي: هي الأخلاق تنبت بالنبات
وكقول شوقي: العلم يرفع بيتا لا عماد له
وكقول الجواهري: والصمت أبلغ ما يطوى عليه فم
إلى غير ذلك من الشواهد المتناثرة في طيات الكتب والمحفوظة في الصدور على مر العصور.