لن يشهدَ العالم يومًا موت كاتب!
لن يقرّ القلمُ أن كاتبًا مات ولن نشهد يومًا جنازة كاتب! لا زلنا نسمع بأسماء من كتبوا قبل أكثر من ألف سنة، وأظنّ أن ألف سنةٍ قليل!
كل أصحاب المهن يفارقون مهنَهم واحدًا تلو الآخر وعندما يموتون تفارقهم مهنهم. وهناك من لا تتعلق مهنته بوقتٍ ينقضي أو زمانٍ يتصرم، فيبقى معلقًا في فضاءِ الذكريات مثل الكاتب. وهنا أعني من حقًّا يصدق عليه صفة ”كاتب“ ويكتب علمًا نافعًا! أما الكتابة بذاتها وفي حدودها فكلنا تكتب. الكاتب من يقدم إضافةً فكرية ومعرفة جديدة أو مجددة.
كُتّاب في الماضي قطعوا الصحارى والقفار، ركبوا البحار وتعرضوا لشتى الأخطار. بذلوا ماءَ وجوههم في استعارة مخطوطة، وأموالهم الشحيحة من أجل شراء كتابٍ نادر! ثم كتبوا كتبًا قيمة في مجلدات على ضوء السرج الخافتة والورق الغير متوفر، كتبًا فخمة من عشرات الأجزاء في شتى العلوم؛ الدين، التاريخ، الفلسفة، الاجتماع، وخلفوا تراثًا ضخمًا من العلم الفريد في صنفه، عالم واحد يكتب في صنوفٍ شتى من العلوم!
تخيل أن كاتبًا يضطر لاستعارة كتاب - يستخدمه كمصدر - ثلاثة أيام فقط، لكن صاحبه يمتنع! يلتمسه في يومين لكنه يمتنع أيضًا... يوم واحد ويمتنع، ثلاث ساعات ويرفض، أن يطالع الكتابَ في داره فلا يسمح بذلك، لولا أنّ معجزة تحدث ويحصل على نسخة من الكتاب! وبوسعِنا أن نعدد أمثلةً كثيرة وحكاياتٍ جمة عن معاناة الكُتّاب! بعض المهن تمنح أصحابها ألقابًا فخمة وأموالًا طائلة، وليس هذا بالضرورة حال من كتبوا. فيهم من عملوا وكتبوا ولم يجمعوا ثروةً تذكر، إنما أكثر من ذلك، بذلوا أموالهم وجهدهم في كتابة كتابٍ واحد!
ليس الغرض من هذه الخاطرة إقامة الحجج والبراهين على قدرة الكاتب على البقاء في ذاكرة الناس وتحت أنظارهم وإن هو ميت. كيف وهناك من لا يموت عمله الصالح؟ كيف والإمام عليّ بن أبي طالب ينصح صاحبه كميل بن زياد بحمل العلم لأنه إن فعل ذلك لن يموت: ”يَا كُمَيْل بْن زِيَادٍ، مَعْرِفَةُ الَعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ، بِهِ يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ، وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. يَا كُمَيْل بْن زِيادٍ، هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ: أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، أَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ“.
وهنا أقدم دعوة لمن يستطيع أن يكتب وهو الغرض والرسالة في الخاطرة: ليس الكتاب في الدين وإلا فلا؛ أنت طبيب، أنشر أبحاثك الطبية، مهندس، انشر معارفك في الهندسة. أو غير ذلك، سوف لن تموت عندما تخلف من بعدكِ علمًا ينتفع به!