آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 8:43 ص

الأيديولوجيا في صناعة السياسة الأمريكية

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

لم تمر السياسة الأمريكية بمشاهد تشبه الذي جرى في الأعوام الأخيرة. آخر تلك المشاهد، هو الاتهام المتبادل بين الرئيس السابق دونالد ترامب، والرئيس الحالي جو بايدن، بإخفاء وثائق سرية، وفي كلا الاتهامين هناك ما يمكن توصيفه بالفضيحة. والأهم في هذا السياق، هو اعتراف البيت الأبيض بالعثور على عدد من الوثائق السرية في منزل بايدن الخاص، في ويمنغتون بولاية ديلاوير، يعود تاريخها إلى فترة توليه منصب نائب الرئيس خلال عهد باراك أوباما.

وكانت وزارة العدل الأمريكية أوضحت في مطالع شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، أن عناصر من مكتب التحقيقات الفيدرالي، بناء على موافقة قضائية، صادرت 11 مجموعة من الوثائق السرية، إثر تفتيشهم منزل الرئيس الأمريكي السابق ترامب، في ولاية فلوريدا، من ضمنها وثائق صنفت بالسرية للغاية.

وإذا كان مقبولاً اعتبار الحملة المتبادلة بين قادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي، واتهامهم بعضهم بعضاً بخيانة الدستور، جزءاً من التنافس الذي احتدم بين الحزبين بشكل لافت في السنوات الأخيرة، فإن من غير المفهوم أن ينتقل الصراع لكتل الحزب الجمهوري. وقد بلغ ذلك الصراع أوجه حيث حال وقوف يمين الحزب، بزعامة ترامب، دون فوز الجمهوري، كيفن مكارثي، برئاسة مجلس النواب. وتكررت الجولات الانتخابية، خمس عشرة مرة، في ظاهرة فريدة لم يشهدها مبنى الكابيتول منذ أكثر من مئة عام. وتحقق فوز مكارثي بعد تلك الجولات، إثر تقديمه تنازلات، بعدم الخروج عن سياسة اليمين في حزبه، وتعهده بالاستقالة مستقبلاً، في حال خروجه عن تلك السياسة.

المشهد الآخر غير المألوف في التاريخ الأمريكي، تسببت به هزيمة ترامب، أمام منافسه بايدن، في الانتخابات الرئاسية، حيث قام أنصار ترامب بهجوم على مبنى الكابيتول.

نهتم في هذا الحديث، وأحاديث أخرى قادمة، بمحاولة معرفة أسباب هذا التحوّل غير المسبوق، في مجرى السياسة الحزبية بأمريكا، منطلقين من فرضية مؤدّاها أن السبب الرئيسي لذلك، هو أولاً الضعف المتلاحق في موقع رئاسة الدولة، وانتقال السياسة الأمريكية، عما تم توصيفه تاريخياً بالبراغماتية، «قانون المنفعة»، إلى التعصب الأيديولوجي، منذ مطالع الثمانينات من القرن المنصرم، حتى يومنا هذا.

ويعود السبب الرئيسي الأول للأزمة، والذي يتمثل في ضعف الموقع الرئاسي، إلى تغوّل دور مؤسسات الدولة العميقة، على دور المؤسسة التنفيذية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي يشكل اغتيال الرئيس الأمريكي، جون كنيدي، في مدينة دلاس، بولاية تكساس، أحد تعابيره الصارخة. فهناك ما يشبه الإجماع لدى وسائل الإعلام، والأمريكيين جميعاً، على ضلوع الدولة العميقة في عملية الاغتيال.

لقد أفرزت نتائج الحرب العالمية الثانية، عصر النجوم الذي تمثل في وجود قادة تاريخيين، بكاريزما خاصة، على مستوى العالم. كان هناك روزفلت، وديغول، وتشرشل، وستالين، وشوآن لاي، وتيتو، وسوكارنو، وعبدالناصر، ولكل من هؤلاء دوره، إما في قيادة بلاده نحو النصر، وإما في قيادة حركة تحرير بلاده من الاحتلال، أو في تشكيل كتلة عدم الانحياز. وقد تسلم هؤلاء قيادة بلدانهم بعد الحرب مباشرة، وتربعوا في حينه، على عرش قيادة العالم المعاصر.

وبعد الحرب مباشرة، نشط الماركسيون الجدد، في الولايات المتحدة وفي أوروبا الغربية. وكانت فترة صعود كبير لفكر أنطونيو غرامشي، سكرتير الحزب الشيوعي الإيطالي، الذي شكّل في حينه ثورة في النظرية الماركسية. وطغت شعارات الكتلة التاريخية، والمثقف العضوي، ونقد الإنتلجنسيا، على ما عداها من الشعارات. وفي مقاومة هذه التوجهات الجديدة، من قبل الغرب الرأسمالي، اعتمدت أمريكا في المراحل الأولى لصعود اليسار، سياسة القمع الممنهج، وبرزت مرحلة استبداد ومصادرة للحريات عرفت بالمكارثية، نسبة إلى جوزيف مكارثي، عضو مجلس الشيوخ الأمريكي الذي وصف عام 1946، الكثير من أعضاء الكونغرس بالعمالة للشيوعية، وطالب بإبعادهم، وبتصفية الوجود الشيوعي في مؤسسات الدولة والجامعات، ومراكز البحث العلمي، وحيثما يتواجدون.

لكن المرحلة المكارثية، لم تحقق أهدافها في القضاء على تلك الأفكار. وقد اكتشفت أجهزة الأمن الأمريكية، ومؤسستها الناشئة آنذاك، «السي آي إيه»، أن نجاح اليسار في أمريكا والغرب، يعود إلى عدم وجود علم سياسي تحليلي وتفكيكي في الغرب، واكتفاء الحقل الأكاديمي في هذا المجال، على التوصيف، وإنه حان الوقت لتشكيل نظريات سياسية عدة، على غرار ما هو مألوف في الأسواق الرأسمالية من تعدد السلع، وخضوعها لقانون العرض والطلب. ومن هنا كانت بداية الأيديولوجيا.

ما علاقة ذلك بالتحولات الراهنة، التي تجري الآن في مبنى السياسة الأمريكية؟ ذلك ما سوف نناقشه في المقال القادم، بإذن الله.