آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

هل الصور هي الذكريات حقا

أثير السادة * صحيفة الوطن

يحدث أن ينظر الواحد منا إلى صورة قديمة ويتذكر من خلالها شيئاً ما، ثم يعود لها ثانية بعد وقت طويل، ليتذكر معها أشياء أخرى، ربما لا تشبه ما استحضره من ذكريات في المرة الفائتة، ربما زاد عليها قليلاً، أو ذهب بها إلى سياق جديد، وفكرة جديدة، الصورة هي ذاتها لم تتغير، غير أنه مزاجنا وأفكارنا وذاكرتنا هي من تعيد ترتيب وزحزحة المعاني والذكريات في داخل الصورة.

في كل مرة نطالع فيها الصور القديمة نعيد تلوينها، هذا ما تؤكده الباحثة في شؤون الذاكرة «ليندا هنكل» وهي تشير إلى الطبيعة الديناميكية للذاكرة، طبيعة تتجاوز قدرات الصورة وإمكانياتها. تجربة النظر إلى الصورة تختلف عن الصورة ذاتها، ولذلك تحرص على التفريق بين التصوير والمعايشة، وتعتقد أننا كلما ذهبنا باتجاه تصوير الأشياء فقدنا شيئاً من حظوظ العيش في اللحظة، والتفاعل والتواصل الإنساني الكثيف مع المحيط من حوله الذي يمكن أن يمارسه الإنسان من غير صورة. جاء اعتقادها إياه بعد دراسة ميدانية أجرتها قبل 10 سنوات على مجموعة من طلاب الجامعة في زيارة لأحد المتاحف، خضعوا لاختبار التذكر بعد يوم من الزيارة، ولم يتمكن المنشغلون بالتصوير من تذكر كثير من التفاصيل، مقارنة بالمجموعة الأخرى التي اكتفت بمشاهدة المحتويات داخل المتحف، والأمر برأيها يعود إلى الاتكال على الصورة في حفظ المعلومات، وهو ما يسهم في اضمحلال الذاكرة وتراجع فعاليتها.

هنا تحاول الباحثة وضع مسافة فاصلة بين الاثنين، بين الذكريات والصور، فأنت مع كل ضغطة زر على الكاميرا ستكون خارج الواقع، وخارج اللحظة التي يفترض أن تعيشها بكامل حواسك، وبحضور ذهني كاف لالتقاط مزيد من الذكريات، أنت تمارس التقنين لشكل الذاكرة ومحتواها، وتطرد التفاصيل من حدود الذاكرة إلى حدود الصورة التي يجري الاتكاء عليها كأداة للتذكر، دون ضمانة على قدرتها في القبض على التفاصيل التي كانت في خارجها.

قد تبدو هذه الإشارات صادمة أو مزعجة لنا جميعا ونحن ننشغل يومياً برصد يومياتنا عبر الصورة، وقد نعترض عليها لأننا ببساطة تعودنا النظر إلى الصور القديمة ووجدناها تستنهض كثيرا من الكلام حولها وفيها، لكن دعونا نتذكر هذه الذاكرة المثقلة بالصور اليوم، ذاكرة مصابة بتخمة التذكر، حيث لا شيء خارج دائرة التصويب بالعدسة، تلك الصور التي نلتقطها والأخرى التي نشاهدها، هذا الحصار البصري الكبير يمثل حالة من حالات التشتيت الذهني لو تأملناه، لم نعد نرى ما نريد أن نرى، ولا نصور ما نريد أن يكون حقاً ذاكرة للأبد..هنالك كثير مما حذفته الصور لا نملك القدرة على استحضاره، مقابل الكثير الذي رسخته الصورة في السجلات، من غير أن يكون المرور بها لاحقاً أمراً أكيداً لكثرتها.

ما الذي نعاود مشاهدته غداً، وما الذي سنتذكره؟ سؤال قلق أمام هذه الطوفان من الصور، سنكون بالتأكيد أمام آراء متباينة في شأن وظيفة الصورة كرافعة للذاكرة، هنالك من سيذكرنا بديمقراطية الصورة التي وهبت الجميع القدرة على توثيق لحظات حياتهم، والاحتفاظ بما يرونه سبباً للبهجة والاستمتاع والتذكر لسنوات عمرهم المقبلة، ولعل ذلك صحيح، لكن من غير الأكيد أن يكون لكل هذه الذكريات طعم ورائحة يمكن استعادتها في لحظات التذكر.

كثير من صور اليوم تخزن معلوماتها في الذاكرة القصيرة، من دون التمكن من تخزينها داخل خزانات الذاكرة طويلة الأمد، سنكون في تلك اللحظة في موقع الشخص الثالث كما يصفه أحد الباحثين، الشخص الذي ينظر للصورة من خارج التجربة، شخص بمشاعر أقل حدة وكثافة، مقارنة بالشخص الأول الذي يراد به من يعيش اللحظة بتفاصيلها ومشاعرها.

والحال أنه أمامنا كثير من الجهد الذهني للموازنة بين قدرتنا على معايشة اللحظة وممارستنا للتصوير في الوقت ذاته، وكثير من المراجعة لطريقة توثيق يومياتنا، وحفظنا لذكرياتنا، حتى لا ينتهي بنا المطاف إلى خزائن من صور بلا ذكريات حقيقية.