آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 3:01 م

جولة في جزيرةِ الفينيقيين

سعود عبد الكريم الفرج

في 12 يناير 2023 م سعدنا بجولة سريعة بجزيرة تاروت شملت معظم متاحفها الأهلية التي تحتضنها تلك الحارات الزاخرة بماضي الأجداد ناهيك عن مقاهيها الشعبية التي تزخر بالرواد المحبين للتراث.

وقد ذهلت حقا بما شاهدته في تلك المتاحف الخاصة فأنت تقف أمام كنوز نادرة وبجهود ذاتية ساهمت بكل وعي ومسؤولية في الحفاظ على جزء من تراث تلك الجزيرة التي كانت مهداً للفينيقيين الذين عاشوا عليها ومنها انطلقوا يجوبون البحار والمحيطات بسفنهم حتى استوطنوا مدن سواحل البحر الأبيض المتوسط في لبنان وجنوب سوريا وجزيرة قبرص وبعض سواحل اليونان فأصبحت تلك الأماكن تفتخر بهم وبأنهم أول من عمروها أو أسهموا في إعمارها وسكنوها لكن المؤرخ المرحوم محمد سعيد المسلم في كتابه واحة على ضفاف الخليج ينسبهم إلى هذه الجزيرة قبل نزوحهَم منها حيث جاء العثور على بعض التماثيل المكتشفة فيها والتي تعَود للحقبة الفينيقية ويقال إنها لعشتاروت مليكتهم...

وعند زيارتي لها برفقة الصديقين مكي المرهون وأبي ناصر علي الشطي صاحب هواية صناعة القوارب الصغيرة التي تتخذ للزينة ويعد من الصناع الملهمين في هذه الصناعة التراثية وهو من أهالي هذه الجزيرة.

وقفت حقا على كنوزا لا تقدر بثمن تشعرك بأنك في حضرة التاريخ والأصالة فهذه قلعتها تقف شاهدة على حضارات سادت ثم بادت وتلك الحارات المتعرجة والسوابيط التي تفنن بعض الأهالي على ترميمها وإدخال بعض اللمسات الفنية عليها تعد اليوم مقصدا مهما للسائحين والباحثين عن نهم الآثار وَالعراقة.

بدأنا جولتنا بزيارة المسجد المعروف «بأبو عزيز» الذي يعمل على ترميمه وإعادته إلى شكله الطبيعي الفنان التاروتي الشاب حبيب سليس بدعم من أحد رجال الأعمال فيها. وبنظرة سريعة على الأعمال الجارية فيه تبدو الزخارف والأقواس مستمدة من تراث ماضيه الذي قد يعود تاريخ بنائه إلى أكثر من 130 سنة.

ثم اتجهنا إلى أحد المجالس الشعبية المجاورة له والتي يتجمع فيها بعض الأهالي لاحتساء أكواب الشاي وتبادل أطراف الحديث في جو مفعم بالأخوة والصداقة.

ولن تفلت من كرم الضيافة والاستقبال الحسن عند تجولك في تلك الجزيرة الطيبة بساكنيها.

توجهنا بعد ذلك إلى ممر السعادة في داخل ديرة تاروت القديمة والذي نسقه وزينه الأستاذ َمحمد عبدالغني فأبدع فيه بلمساته الفنية وحوله إلى مكان جذّاب يلفت انتباه السائح ويوجد داخله أيضا مجلس شعبي جميل يدور فيه الشاي المخدر ليقدم للضيوف في جو مفعم بابتسامات الحضور الذين يوزعونها على الزائرين إنها صفة يتمتع بها أهل تاروت بعفوية وصدق.

وخلال مروري عبر تلك الدروب المتعرجة شدني صوت بعض النسوة وهن يرددن قراءة المولد بصوت شذي جميل فعادت بي الذكريات إلى حارتنا القديمة التي لم يبق لها أثراً بعد عين.

وتتربع تاروت القديمة على تلة مرتفعة أقيمت عليها تلك المنازل التي أصبح بعضها آيلة للسقوط مع تقادم الزمن عليها والبعض الآخر قام أصحابها بترميمها لتبقى شاهدً على تراثها المتربع فوق التلة

ولربما أسفلها من الممكن أن تزخر بآثار لازالت مطمورة تحت ترابها

ولعل في قادم الأيام تتهيأ لها بعثة تنقيب مثلما تهيأت لبعض المواقع المجاورة لها سلفا. للمحافظة على تلك الأماكن الأثرية الغنية بالتاريخ

فالمسؤولية مشتركة بين الأهالي والإدارة العامة للآثار التي نأمل أن تعطي جلّ اهتمامها إلى هذه الأمكنة التاريخية لتبقى عامل جذب سياحي َوحافزا للأجيال القادمة في المحافظة وخارجها لحفظ هذا التراث قبل أن تعبث الجرارات به لا سمح الله فتصبح كغيرها في خبر كان.

ومن خلال زيارتي للعديد من دول العالَم وجدت أن المحافظة على مثل هذه الآثار واجبا وطنيا يدر دخلا سياحيا يسهم في زيادة الدخل القومي لتلك الدول.

بعدها واصلنا جولتنا حتى وصلنا إلى متحف أصالة عشتار الأهلي المكون من ثلاثة طوابق لصاحبه مهدي صالح معيلو

وهناك أخذنا الشوق لحب الاستطلاع والنظر إلى كل زاوية التي لا تخلو من قطعة أثرية أو منظر جذاب تجعل الجولة أكثر تركيزا وانتباها لمشاهدة محتويات المتحف التي غلبت عليه صفة الأصالة بشكل ملفت لا يتكرر في مكان آخر عبر تلك الأدوات المعروضة.

وبالصعود إلى طابقه الثالث وبإطلالة على المدينة تشاهد قلعتها في منظر ملفت للعيان وهي تزهو بشموخ الَماضي العريق وعندما يحل المساء تتحول القلعة إلى منظر بانورامي خاص عند تسليط الأضواء الخضراء عليها فتبدو كدرة تتلألأ فوق الشاطئ الجميل.

وتاروت والبلدات التابعة لها بصفة عامة. تزخر بالعديد من المثقفين والشعراء والأدباء والفنانين وأصحاب الرأي الذين يسهمَون في رفد الحركة الأدبية والفنية والثقافية بإنتاجهم في وطننا الكبير الغالي المملكة العربية السعَودية بل وتعدت أعمالهم مصدرا إبداعيا خارج الحدَود منهم الدكتور الناقد الفذ. الشاعر أحمد بن محمد المعتوق التي أصبحت مؤلفاته تدرس في بعض الجامعات العربية والفنان المعروف عبد العظيم الضامن والشاعر الكبير الشيخ عبدالكريَم آل زرع.. والشاعر المتألق محمد الماجد والأستاذ الشاعر شفيق العبادي والأديب والمؤلف المعروف علي الدرورة صاحب منتدى النورس الثقافي َوالأستاذ عبد الله آل عبد المحسن مؤلف كتاب شعراء القطيف المعاصرون والدكتور المعروف على مستوى الوطن عبد الجليل السيف والأستاذ جعفر الشايب صاحب منتدى الثلاثاء الثقافي وغيرهم الكثير من أصحاب المؤهلات العلمية التي تزخر بها هذه الجزيرة والذي لا يتسع المجال لذكرهم عبر هذه العجالة.

لكن الخبر السار الذي أطل علينا قبل فترة وهو توجيه ولي العهد المعظم صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله برصد مبلغ ملياري وستمائة مليون ريال لتطوير هذه الجزيرة لتتحول إلى موقع سياحي هام وجاذب للاستثمارات لما تتمتع به من موقع استراتيجي يطل على مياه الخليج العربي.

موقع الجزيرة يهيؤها لتأخذ دورها في الصدارة بين جزر الخليج الأخرى بل وقد تتفوق عليهم لما تملكه من إرث تاريخي عريق وموقع استراتيجي وإطلالة متميزة على المياه اللازوردية.

لقد كتبت أبيات قليلة فيها قبل خمسة عشر سنة تقريبا معجبا بها حتى جاءت جولتنا أول أمس ألقيتها في غرفة الطواشين بمتحف أصالة عشتار الأهلي.

يا أرضَ تاروتَ يا مهدَ الحضاراتِ
يادرةً فوق شطآن وواحات

رددت في نغم تاروت قافيتي
لكم تري العين فيها من مسرات.

عند السنابس كان الأمس يطربني.
كم نلت فيها ربيعا من ملذات

فيها من الناس من رقت مشاعرهم
هم أهل ودي وأصحاب المروءات.

يا أهل تاروت مازالت تداعبني
أصداء ماضيك من فوق الحجيرات.

كانت مراكب قومي لا ترى وهنا
كم طوعت صعبة بين المحيطات.

واليوم عدنا نرى من حصنها أثرا
تكسر الموج لحلم بعد آهات.

جرنا على البحر لم نترك ضفاف هوى
غير الرميم الذي ينأى بأنات

حيث المروج الخضر أشجارها طمرت..
والشاطيء الغض يشكو من ظلامات.

«مهدي» قل لي أثار الحس يقظته
فمن ترى يسمع الذكرى بإنصات.