الحداثة الغربية والرابطة الأسرية
تشكل الأسرة أهم مؤسسة إنسانية في الهرم الاجتماعي فمن خلال الأسرة يبنى الأنسان من النواحي التربوية والعقلية والأخلاقية ويتكون المجتمع الفاضل.
وتعد الأسرة في المجتمع الإنساني المعلم الأول للقيم والنسق الأولي لمصدر تكوين أساس المجتمع التاريخي.
وفي العلوم الاجتماعية الغربية الحديثة تغير النظر إلى الأسرة ومكونها الأساسي ويجري البحث في نظريات تفكيك مفهوم الأسرة التقليدي والتاريخي.
وقد توصلت البحوث الغربية إلى قناعات جديدة تدعوا إلى تفكيك مفهوم الأسرة التقليدي على اعتبارها المكون الرئيسي والحصين لهوية المجتمع ومنظومة القيم وأن تحديثها وتطويرها يعد شكل من أشكال الأبداع، وضرورة تحويل المجتمع الكلي التقليدي الكبير وإحداث عملية التحديث لتحقيق المجتمع الحضري المثالي.
وتعرض مارتن سجالين الباحثة الفرنسية المتخصصة في قضايا الأسرة والقضايا الثقافية نظرية «الأسرة نهاية النموذج الوحيد» ويأتي هذا الطرح السوداوي من نتاج ما توصلت له البحوث الغربية في نظرتها الجديدة للأسرة التي تهدف إلى تغيير هوية الأسرة وأسس مكوناتها الإنسانية والتقليدية القائم على الروابط المعنوية إلى تجديد تشكيل مكون الأسرة على اساس من علاقات المصلحة المادية والشراكة التي يتساوى فيها الزوجان في الحقوق والواجبات على اعتبار كل طرف كياناً مستقل عن الأخر وليس له علاقة أسرية مترابطة ليكمل كل طرف للأخر.
وفي العقد الأخير شهدت الثقافة الغربية المعاصرة تحولات واسعة في جميع جوانب الحياة الاجتماعية ما جعل الأسر تقع تحت تأثير هذه الأفكار وبالأخص فيما يتعلق بالعلاقات الأسرية، ويطلق بعض المثقفين الغربيين على الزواج عنوان العبودية والعمل المجاني ويرفض رعاية الأبناء من قبل المرأة والاهتمام بالشؤون المنزلية.
وتسعى النخبة الغربية المثقفة إلى تسويق هذا المفهوم الجديد عالمياً للأسرة المفككة التي تتلاقي في المصالح المادية دون اعتبار للروابط الإنسانية والمعنوية بواسطة المؤسسات الإعلامية واللقاءات الحوارية والندوات، ونشر الكتب والأبحاث وتجتهد لتحقيق هذا المفهوم الغربي في المجتمعات والتي من ضمنها المجتمع العربي وإيجاد حواضن من المتأثرين بهذه الثقافة من طابور مثقفي العرب لترويجه في الوسط الاجتماعي.
وفي عصرنا الحديث تمر المجتمعات العربية وبالأخص الأسر بمرحلة من التغير الجذري متأثرة بتطورات الحداثة الغربية وتصارع من أجل المحافظة على قيم العلاقات والروابط الأسرية في وجه التحديث الغربي الذي يجردها من جميع قيم الأخلاق الإسلامية
وشهدت المجتمعات العربية تحولاً عميقاً في النظر لمفهوم مكون الأسرة وحدود العلاقات والروابط الأسرية التي تتعلق بحقوق وواجبات الزوجين وعلى أثر ذلك فقد تزايد اعداد الاختلافات والخلافات الزوجية وارتفعت معدلات الطلاق وتفكك الأسر.
وفي هذا المضمار فأن مارتين سجالين الباحثة آنفة الذكر تشير إلى أن ظهور المرأة إلى سوق العمل يؤدي إلى حتمية نشوء صراعات في الأسرة وتفكك العلاقة بين الزوجين ما ينتج عنه انهيار الأسرة.
ومنطقياً ليس من العقل أن يتم أسقاط نموذج التفكير الغربي على المجتمع الإنساني وتعميمه على جميع المجتمعات التي لديها منظومات قيم مختلفة وتشريعات وقوانين خاصة بها تحقق التوازن في العلاقات الاجتماعية الأسرية.
وفي مقابل طرح المفهوم الغربي المتشائم والفوقي الذي يفرض وصايته الفكرية على المجتمع البشري ويدفع لتعثر مستقبل تطور الأسرة في النسق الاجتماعي الطبيعي، فأن المثقف العربي قادر على ايجاد رؤية اجتماعية اسرية توافقية تقارب في الحقوق والواجبات والمسؤوليات التي يتحملها كلا الزوجين وتوزع الأدوار بما يكفل الرضا والقبول بينهما.
وان كان عمل المرأة في سوق العمل يعرضها لإشكال أسري بسبب قصور تحمل مسئولية تربية الأبناء وتدبير شؤون المنزل فأن الأجدى من الباحث الغربي أن يقف بجانب المرأة ويدعمها بالأفكار الإيجابية والمثالية التي تسهل عليها تحمل هذا الدور ويوجد لها الحلول بما يكفل استمرارية الروابط الأسرية التي تبنى على مقومات العدل والتسامح بين الزوجين وضمان تحقيق السعادة لهما.
وهناك الكثير من النماذج التطبيقية المعاصرة للأسر المنتجة الناجحة أسرياً والمشاركة في سوق العمل فمصير تطور الأسرة المستقبلي ليس حكراً على نمط ونموذج الثقافة الغربية ولايعني حتمية أنهاء هذا المكون الإنساني التاريخي وتفكيكه، فهو الرابطة المقدسة لسببية وجود الأنسان وبقائه على الأرض بل الأولى أن يتم إيجاد روئ وأفكار ملائمة لما يطرأ من ظروف متغيرة تؤثر في تماسك الأسر وتحقيق الدعم والمساندة للأسر بما يمكنهم من معالجة الإشكالات التي تحيط بالعلاقة والرابطة الزوجية.