الكتابة بوصفها لعبا في مواجهة الحياة
لا طريق آخر للتخلص من ثقل القيود التي تفرضها عليك الحياة سوى الإقبال عليها بمرح ولعب وتهكم وهزل، أليس هذا ما ينبغي أن يفعله المبدع؟! سواء من خلال نصه أو من خلال علاقاته في الحياة اليومية.
أخذ الحياة على محمل الجد خطأ كبير، والتفكير بها على هذا الأساس يقلص مساحات الحرية التي تلح عليك منذ الولادة. فالحرية نداء يأتيك من أعماق أعماق ذاتك، لا تعلم من أية جهة يأتيك. لكنه لا يبرح يكبر في صحراء أيامك، بالخصوص حين تجد نفسك محاطا بما نسميه الكتابة. التحايل على الحياة بالكتابة شيء، والتحايل عليها بالجسد شيء آخر، لكن قبل هذا وذاك: لماذا التحايل؟ وما معناه هنا في معرض حديثنا عن اللعب والمرح والهزل في مواجهة الحياة؟ يرد في قواميس اللغة: تحايل على الرجل أو الشيء: سلك معه مسلك الحِذْق ليبلغ منه مأْربه. أو: الحيلة: الحِذْق، وجودة النظر، والقدرة على دقة التصرف في الأمور.
ضمن هذا التصور للكلمة، هل يمكن وضع الحياة موضع الرجل أو الشيء؛ حتى يمكننا القول: إن الإنسان يتحايل على الحياة أي يسلك معها مسلك الحذق ليبلغ منها مأربه، أكاد أنظر إلى الاستعارة في اللغة باعتبارها من أهم أدوات التحايل على الحياة «وذلك من باب اللعب بالكلمات من خلال شحنها بكهرباء المخيلة»؛ كي يبلغ الإنسان مأربه.
ومأربه أو غايته هنا هو نداء الحرية الخفي الذي يجعل من قوة الاستعارة طاقة جبارة بيد الإنسان يصنع بها ما لا يستطيع أن يصنعه في واقعه وعالمه الحقيقي، أليس هذا نوعا من التحايل على ما تود الحياة أن تقسرنا عليه من معيش وظروف مكانية وزمانية؟ أليس استعمال الاستعارة «أو المجاز على عمومه» وتوظيفها في الكلام واللغة هو نوع ما من ردود أفعالنا؛ كي نقول للحياة: هذا يكفي، لنا أحلامنا أيضا، ولنا حريتنا أيضا، ولنا رأينا في هذا العالم الذي نعيشه، لكن ليس كل شخص «وأنا هنا أتحدث عن المبدع تحديدا الذي يمارس الكتابة الإبداعية» قادرا على أن يدعو الحياة للجلوس معه على طاولة للعب معها؛ لتمضية الوقت لا أقل ولا أكثر، البعض حاول أن يطلق عليها النار من مسدسه. لكنه في واقع الأمر أطلق على نفسه، هل هذا ما نسميه انتحارا، هناك الكثير من المبدعين الذين حاولوا الوصول إلى الحالة الصفرية من الهدوء وعدم القلق من قسوة الحياة، لكن الكتابة كانت متواطئة مع الحياة نفسها، وكلما حفروا عميقا في أرضها وجدوا معاولهم ترتطم بصخرة الحياة، فترتدّ إلى وجوههم بضربة مؤلمة، فلم يتحملوا كل هذا العناء، فانتحروا معتبرين الحياة مجرد لعبة ينخدع بها الإنسان وعلى هذه اللعبة أن تتوقف، فرجينيا ولوف، خليل حاوي.. ألخ.. وأكاد أذكر همنغواي لكن تحايله على الحياة بالكتابة ونجاحه أمامها، لم يكن سوى نجاح مؤقت، فقد استطاعت الحياة تحويل هذا النجاح إلى يأس مفرط من الحياة ذاتها، فانتحر، إنه نوع من التحايل على التحايل تمارسه الحياة علينا باقتدار، وهناك البعض الآخر الأكثر ذكاء وقوة حدس وعمق، لم يؤد بهم اللعب أو المرح مع الحياة من خلال الكتابة إلى الانتحار أو الهشاشة والانكسار، بل قسم منهم أضاف قوة الجسد في مواجهته للحياة، إضافة إلى قوة الكتابة، نيتشه في ظني كان الأكثر مرحا ولعبا وقوة في نفس الوقت في مواجهته للحياة، رغم قساوة المرض والوحدة، إلا أن ميزته عن غيره، مارسيل بروست على سبيل المثال، أنه وسع من فكرة اللعب مع الحياة، وأخذ معه التاريخ والثقافة والفكر، ووصل إلى أس اللعب مع الحياة وقانونه، وهو العبث ولا شيء آخر، بينما الدخول في لعبة التذكر وتداعياتها السردية كانت هي المغزل الذي يشد خيوط الحياة إلى دائرته، وهكذا يمكن أن نحصل، إذا ما اقتربنا أكثر، على تجارب أخرى خاضت غمار اللعب مع الحياة كخيار وحيد للكتابة، الحركة السوريالية والدادائية بشعرائها وفنانيها الكبار الذين واجهوا بها إعصار الحرب العالمية الأولى التي هزت المجتمع الأوروبي برمته، تماما مثلما حصل مع جيل شعراء التمرد في أمريكا في مواجهة حياة التوحش الرأسمالي من خلال إعطاء الجسد حريته بالمخدرات، وإعطاء الكتابة حريتها بالتهكم والسخرية والصراخ.