مجازات المستطيل الأخضر
اللغة هي الملعب الكبير الذي يحتشد عنده متابعو كرة القدم بعد كل مباراة، تنتهي معركة الأقدام بصافرة الحكم، لتبدأ من هناك معركة المجازات، لا يهدأ لأهل الرياضة بال حتى يشبعوا الحدث تعليقًا وتوصيفًا، فهم يكملون مباراتهم التي لا تنتهي غالبًا إلا على أطراف مباراة أخرى.. هي بذلك مأدبتهم المفتوحة والتي وجدت في منصات التواصل موقدها الأكبر لنيران لا يراد لها أن تبرد.
وكأس العالم بحماسها ونكهتها ليست استثناءً، بل هي تمشي على حقل من مجازات لغوية، تجعل من هذا المستطيل الأخضر، درسًا في المراوغات اللغوية، فليست الهتافات وحدها من يغرف من مناهل اللغة وأدواتها، بل حتى الضحك والحزن الذي يصاحب كل مناسبة رياضية يمد جسرًا طويلًا داخلها، فالأخضر السعودي بحسب موقع إخباري شهير «يصعق ميسي ورفاقه»، فيما موقع آخر يعنون ب «صقور السعودية تصطاد ميسي ورفاقه» وثالث يعيد تعريف الشنب بأنه «المنتخب السعودي»، وقبل هذا وذاك شعار الجماهير التي جعلت منه أشبه بصيحة الحرب وهي تلوح بكسر عين ميسي، الكسر المجازي، والمراد به الإذلال والمهانة.
حتى السعادة التي عمت المشهد المحلي والعربي على إثر الانتصار الموسوم بالتاريخي، ذكرتنا بأن الرياضة صورة مجازية للحياة، فالفرق الوطنية تذهب إلى هذه البطولات وهي تعلم بأنها تبحر في ماء عميق، أكبر من هذا المستطيل المنذور لتسعين دقيقة من اللعب، ليس الغرض من هذا التعب الطويل لمس الكرة وركلها، ولا التسديد باتجاه الشبك فقط، بل هو استعراض للقوة، قوة الحلم بالفوز والنصر، وبالصعود «فوق هام السحب» كما هي المخيلة الشعبية التي تغذت على أغاني الثمانينيات والتسعينيات، هي الرغبة في أن تطير الدول بأسمائها وأبنائها في سماء الإنجازات ومن خلال مناسبات لا تتكرر كثيرًا.
البهجة كانت عارمة لهدف اللاعب سالم الدوسري وهو يسكن الزاوية، لأنه يشبه الانقلاب على الصور النمطية للاعبي هذا الإقليم، كأنه الثأر من خيال الآخرين بتقديم خيالنا الذي رأيناه يلعب على الأرض، سيركض اللاعبون بعد ذلك الهدف الحاسم، ويركض معهم حلم انفجر حماسة فجأة داخل الملعب وخارجه، كأنه الهروب من مقصلة القدر التي كانت تجعل من صافرة الحكم في هذه البطولة في غالب الأحيان بيانًا مقتضبًا بأن دولنا لم تحسن الكرة الحديثة بعد، وبالتالي تبقّى عليها الكثير لتخرج من معسكر المهزومين في معارك الكرة.
كانت الناس ستغفر للاعبين أي نتيجة سلبية ستنتهي بها المباراة، لأنهم مروضون على الحظ السيء، وعلى الافتتان بلاعبي البطولات والكؤوس الأوروبية، كثيرة هي المقاطع والصور التي تبادلها الجمهور قبل المباراة للتأكيد على ذلك، لكن الآن وبعد الفوز العريض باتوا يتغنون ب «الإعصار» الذي يملك أن يخلق الكثير من الزوابع الهوائية للخصوم، بهذا الخطر الذي أوقف أعتى الفرق المرشحة بالبطولة، بعد الانتصار ستبدو كل مباراة نافذة للأمل، وليس جحيمًا مرتقبًا كما كان في السابق.
هكذا سيخرج أهل الكرة من مجاز لآخر، وستخرج كرة القدم هي الأخرى، ففي المشهد المقابل تستمر الصحف الغربية في إعادة رسم حدود الملعب في كأس العالم، ليصبح ملعبًا لحقوق الإنسان، للعدالة، للمركزية الغربية التي تتسلل من وراء تلك العناوين، العناوين التي تبدو مجازًا حين تخرج من دفاتر المناسبة، وتلاحق الدولة المضيفة، حيث يراد بها العبور إلى النص المحذوف من هذا الخطاب العلني، وهي كرة القدم التي يراد لها أن تظل ملحمة غربية، منغلق بها وعليها، وكأن هذا المستطيل الأخضر هو امتداد لمستعمرات الأمس، ولذاكرة الأمبراطوريات، ولهذه القسمة الطويلة بين دول تشارك وأخرى تستأثر بالنياشين والألقاب.