آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 3:01 م

الفكاك من الطين

حسن المصطفى * صحيفة الرياض

كأن المارد يمسكُ أرواحنا بكلتا يديها، ويشدها لتغوص في وحلٍ من الطين الدبق، الرطب، الثقيل، والنتن!

يدان من مسدٍ، تكبلان الواحد منا، فلا يستطيع الفكاك ولا حتى سؤال النجدة، أو الصراخ من الألم.

الطين الذي نغرق في بحيرته الثخنة، نحنُ منه، وهو منا. منه بدأنا وإليه نعود، وبه نتلطخ يوماً بعد آخر.

الطين الذي نصارع كي لا يلوث ياقاتنا، يتجمد، يتيبس، ويحولنا إلى أصنام لا تستطيع أن تشعر ببرودة الحياة أو حتى رطوبتها.

هنا نحن اليوم، يتوسدنا الطين ونتوسده، يأكلنا ونأكله، يطعمنا المر والملوحة، ونطعمه لذواتنا بعد أن استحكم، وكان السيد الذي جعل اليبابَ وكأنه فراغٌ لا مفر منه!

ها أنت في خواء الطين، لا تشعر إلا بما يخترق بعض الشقوق في الجماد الذي صرته، تمر من خلالها نسمات لتذكرك بأنك من ماء ونور، من حياة جديرة بأن تعيشها حتى آخر قدح تحتسيه بحبور، دون أن يكون الطين نديمك في المساءات الباذخة، أو عشيقتك في عشاءات الأقمار المنيرة.

كثيراً ما يكون الطين كأغلالٍ تلقي بك في بئر مظلمة، إلا أنها القعر الذي عليك أن تنهض منه ما أن يرتطم جسدك قوياً. ما أن تسمعَ صوت تكسر أضلاعك، وتلملم نقاط الدم المتخثرة حول أنفك وفمك، حينها تبدأ قيامتك، لتكون أنت لا المسخَ الطيني الذي استحلت مع الوقت.

القعر الذي تظنه قبراً، هو الأرض الصلبة التي ستبدأ، بل ستواصل من خلالها مشوار التحرر من الأوزار التي أثقلت ظهرك، ليكون حينها بصرك حديداً، وروحك المنهكة مصرة على أن تحلق بجناحين لا غبار يثقلهما.

لتكن طائر العنقاء الذي ينهض من تحت الرماد. لتكن الروح التي لم تبصر السماء لتقول إني لا أجيد الطيران. لتكن الإنسان الذي لا يعرف أن يستسلم أو يرفع البياض من رايات الهوان والذل والانكسار.

طبيعي جداً أن تكون جرارُ الطين ثقيلة وأنت تهزها على ظهرك. إنما الذي لا يتوافق وسيرورة الحياة أن تبقى ك ”حمالة الحطب“، فهذا الخشب الذي نخره السوس لن يبني لك مركب نوح، ولن يكون عصا موسى التي تفلق البحر.

النجاة، أنت سيدها، أنت من يعرف سبيلها، لا أحد غيرك.

”القمحُ مرٌ في حقولِ الآخرينَ، والماءُ مالح“.. قالها محمود درويش، وعليك أن تعيها. فلا طعام إلا ما صنعت يداك، ولا سلسبيل إلا ما سقيتَ به نفسك.

أنت الداءُ والدواء. إن استسلمت للطين، بقيت حبيسَ البواكي، وتناهبتك الضباع. وإن نهضت ورميت جرارَ السمِ من على كاهليك، ستكون الطريق رحبة، قويمة، توصلك إلى غاياتك ولو بعد حين.

ليس من دربٍ مضمخٍ بالورود منزوع الشوك سهلِ المسير. إنما الجادة القويمة هي تلك التي تسلكها ببصيرة وحكمة وشجاعة وإصرار ومداومة.

نكونُ أقوياء عندما لا نبقى في القاع. عندما لا ندع الطين الذي تلوكه الديدان ييبس على عيوننا وقلوبنا.

أنت سيدُ نفسك، أنت صاحبُ الروح الشامخة، أنت لا الطين من يجب أن يكون في هذه الحياة.. فلتكف عن التذمر، ولتمضِ قدماً لمعانقة الشمس ومراقصة الأمواج العالية.