ما الذي يجري في إيران؟
الباحث الإيراني في «مؤسسة كارنيغي»، كريم ساجد بور، نشر مقالاً في صحيفة «نيويورك تايمز»، 12 ديسمبر الجاري، بعنوان «لم يعد السؤال هو ما إذا كان الإيرانيون سوف يسقطون آية الله»، طرح فيه العديد من النقاط الجديرة بالنقاش، حول طبيعة الحراك الاعتراضي الجاري في عدد من المدن الإيرانية، ومعانيه، وما الذي من الممكن أن ينتج عنه، ونوعية النخب المدنية المشاركة فيه.
عدد من المحللين السياسيين، يسقطون نظرتهم الذاتية على قراءة المشهد في إيران، وهو الإسقاط الذي سيؤدي إلى سوء تقدير لحقيقة ما يجري، وبالتالي توقع مآلات رغبوية أكثر مما هي واقعية. من هنا، التفكير التحليلي المبني على المعلومة أولاً، وفهم عقلية الشعب الإيراني كما النظام الحاكم ثانياً، وكذلك الاستبصار بسردية التأريخ الذي ينطلق منه الإيرانيون في احتجاجاتهم ثالثاً، كل ذلك يمكن أن يقود لفهم مفاده أن الحراك الجاري تجاوز النخبة السياسية - الدينية الممسكة بزمام السلطة، وتجاوز أيضاً أحزاب المعارضة المقيمة في الخارج، وأنه ينطلق في أساسه من بعد ثقافي - اجتماعي، يريد استعادة وجه إيران المدني، وليس التخندق في ضفة سياسية قبالة أخرى، وإن كانت الاحتجاجات الشعبية واضحة أيضاً في رفضها ل» الاستبداد الديني»، ورغبتها في تغيير تركيبة النظام القائم على «ولاية الفقيه» والذي يحد من الحريات الفردية والعامة.
بالعودة إلى مقالة كريم ساجد بور، فإنه يعتقد أنه «إذا كان المبدأ التنظيمي الذي وحد قوى المعارضة الإيرانية المتباينة في عام 1979 هو مناهضة الإمبريالية، فإن المبادئ المنظمة للحركة المتنوعة اجتماعياً واقتصادياً وعرقياً اليوم هي التعددية والوطنية». وهذا الأمر يقود إلى حدوث تجاوز لدى الجيل الشاب الجديد لخطابات النخب السياسية القديمة الحاكمة منها والمعارضة، واجتراحه سردية جديدة تقوم على «التعددية والوطنية»، وهما ثيمتان رئيستان في «الدولة الوطنية الحديثة»، أي أن جوهر التظاهرات هو الرغبة في التحول من الدولة الدينية إلى الدولة المدنية، وترسيخ الحق في الاختيار الحر!
هذا التبدل في التفكير العام لدى قطاعات واسعة من الجيل الإيراني الجديد، أفرز نخبها غير المنتمية تنظيمياً. ولذا، يلاحظ المراقب المحايد، أن أحزاباً مثل «مجاهدي خلق» ليس لها دور حقيقي في الشارع المحلي، بل تسعى لأن تستفيد من هذا الحراك، وتحاول أن تظهر نفسها في موقع القائدة له، وهو سلوك نفعي، يعكس انتهازية سياسية، ولا يقول الحقيقة التي مفادها أن «وجوه هذه الحركة ليسوا أيديولوجيين أو مثقفين، بل رياضيون وموسيقيون وعامة الناس، وخاصة النساء والأقليات العرقية، الذين أظهروا شجاعة غير مألوفة»، كما كتب الباحث كريم ساجد بور. وهذا الأمر يمكن ملاحظته من خلال شعاراتهم «الوطنية والتقدمية»، والتي من أبرزها «لن نترك إيران، سنستعيد إيران» و» المرأة، الحياة، الحرية».
إن التظاهرات الاحتجاجية المستمرة في عدد من المدن الإيرانية، تشير بوضوح إلى خلل بنيوي في العلاقة بين النظام الحاكم وقطاعات واسعة من الشعب، بما فيها شرائح من الجمهور الداعم للثورة، والذي يعتقد أن أسلوب إدارة الأزمة والتدخل في حياة الناس الشخصية سوف يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية، خصوصاً مع ارتفاع معدلات التضخم الاقتصادي والبطالة وغلاء المعيشة.
عندما شارك الإيرانيون في الثورة العام 1979، وما قبلها، وخرجت التظاهرات الواسعة المنددة بنظام الشاه محمد رضا بهلوي، لم تكن الأهداف التي حركتهم دينية أو بغية تأسيس حكم فقهي، وإنما كان اعتراضهم على الممارسات السياسية والاقتصادية التي كانت شريحة ترى أن الشاه لم يكن عادلاً فيها، وبالتالي خرجت التظاهرات للبحث عن الإصلاح والحرية وترسيخ حكم الشعب.
لقد شارك اليساريون والشيوعيون والشخصيات الليبرالية في الثورة، وكانت النساء السافرات جنباً إلى جنب مع المحجبات. هذا الخليط الذي شكل الثورة، بدأ يتقلص بعد تسيد رجال الدين للمشهد، وشيئا فشيئا صار الشباب المتدينون الثوريون يعملون على فرض رؤيتهم، رغم أنهم لم يكونوا الأكثرية، إلا أنهم كانوا الأعلى صوتا والأكثر قوة.
في بدايات الثورة، سعى الراديكاليون لعزل الفتيات عن الشباب في الجامعات، وفرض الحجاب. ومن ثم صارت أحداث سيئة تم فيها رمي مواد حارقة على النساء السافرات، وشيئا فشيئا مع بدء الحرب العراقية - الإيرانية، وارتفاع الحماسة الثورية والدينية، أحكم المتشددون قبضتهم، ليتم فرض الحجاب على النساء بعد نحو عامين من الثورة.
لقد أدت الحرب، والقتلى الذين يعودون من المعارك، إلى أن تكتسي البيوت بالسواد، وبالتالي، مزيداً من الشرعية الدينية لفرض الحجاب، وسط ضعف عام لدى الشخصيات الوطنية واليسارية، التي لجأ عدد منها إلى الخارج، ومن هم في الداخل بين من سجن أو بقي دون قوة حقيقية، أو اعتزل الحياة السياسية.
بعد كل هذه السنوات، نجد أن الشباب الإيراني يتطلع لأن يعيش في دولة مدنية يمارس فيها بحرية خياراته الذاتية، خصوصاً أنه يراقب ويرصد ما يدور حوله من تغيرات في العالم. ففي الوقت الذي تتجه فيه دول جارة لإيران، كالسعودية والإمارات نحو مزيد من الانفتاح والتنمية والحريات الاجتماعية، يجد الإيرانيون أنفسهم تحت رقابة حكومية أشد، وتحظر عليهم بعض تطبيقات شبكات التواصل الاجتماعي، وكأن النظام الحاكم غير مدرك للتغيرات المتسارعة!
كلما زادت القيود، ورفض الساسة التغير والاستماع لصوت الشعب، ستتسع الهوة أكثر بين النظام والجيل الجديد، ولن يتمكن الممسكون بزمام السلطة في إيران من إحداث تغييرات إصلاحية ترضي تطلعات الشباب، ما سيقود إما لمزيد من الصدام العنيف، أول تآكل متسارع في بنية النظام وشبكة مصالحه وقواه، تقود لتغيرات متسارعة لا أحد يتوقع مآلاتها!