آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:39 م

تتأبى البيوت على المخيلة

محمد الحرز * صحيفة اليوم

لا أعرف شخصا إلا واستوطنه البيت كفكرة وواقع، واحتله كقلق وجودي، وأخذ منه مساحات شاسعة من حياته هي الأكثر غورا وعمقا، وكان البيت بالنسبة له هو سر الأسرار، ومكامن الحنين ومخزن الذكريات. وأنت كلما تأملتَ البيت الذي قضيت شطرا كبيرا من أيامك فيه، رأيتَ ما لا يمكن تخطيه بالإهمال أو عدم المبالاة، رأيتَ ما لا يستعاد من النظرات الأولى، وما لا يزاح بمجرد الملامسة أو النبش، رأيتَ حياتك مثل الجبل الراسخ الذي ينهار جزء كبير منه بفعل عوامل التعرية، وبالتالي ما تحتاجه لإعادة الجزء المنهار منه، هو محاولة استعادة ذكرياتك من البيت ذاته الذي طمرها بين جدرانه ونوافذه وأبوابه، في غفلة منك. فضاء البيت لا يسعه إلا أن تجاريه؛ حتى يمكنك أن تتحدث إليه، تصغي إلى ما يقوله عنك، في طفولتك وصباك ثم شبابك. إنه كنزك الذي لا يمكن إهداره، أو التخلي عنه للآخرين. يحدث أن ننسى البيت في زحمة الحياة، ننسى أننا قضينا فيه أجمل لحظات حياتنا: مع الفرح، مع الألم، مع العائلة التي نراها تكبر في أرجائه.

ويحدث أن نعود إليه بعد أن يأخذ الزمن من أجسادنا كل مأخذ، ويتركنا مثل الهشيم الذي لا آثار له. يصدف في حياتك أن تدخل بيوت الأصدقاء، بيوت الأقارب، بيوت أناس عابرين لا تجمعهم بك سوى المصلحة، وكنتَ تظن حينئذ أن البيوت تتشابه، ليس في بنائها الهندسي، أو في سعة المبنى أو ضيقه، فهذا الأمر لا اختلاف عليه، بل تتشابه، في كونها تضم بين أرجائها حياة واحدة فقط، ورغم اختلاف البشر في طبيعتهم البيولوجية والنفسية والجسدية والاجتماعية، واختلافهم أيضا في الكيفية التي يستهلكون بها هذه الحياة حتى انقضاء العمر، إلا أن الأمر، في النهاية هي حياة واحدة، هي حياة الإنسان نفسه. لكن حينما تهرم سنينك، والأشياء من حولك أيضا تكبر وتذوي، تتساءل بينك وبين نفسك، هل فعلا البيوت تتشابه؟ إذا كانت كذلك، فلماذا حين نذهب إلى البيت الذي درجنا ونحن صغار نلعب بين غرفه وممراته، لا نشعر بالشعور ذاته الآن يوم كنا صغارا، حيث فضاء البيت يتسع لأكثر من أسرة تسكنه، ويراه الصغار قصرا منيفا، بينما في اللحظة الراهنة يتملكنا الاستغراب، ونتساءل: هل هذه البقعة الصغيرة ضمت حياة العديد من الأسر والعوائل تاركين ذكرياتهم ومواجعهم وأحزانهم وأفراحهم تتصارع للبقاء في هذا الحيز الصغير. يا للغرابة، أنت لم تدرك إلا متأخرا أن البيوت تأخذ طابع حياة من يعيشون فيها، تعطيهم الاطمئنان والأمان لكنها تسلب منهم حياتهم السرية التي لا يمكن استرجاعها، إلا ببصيرة نافذة، قوامها المخيلة والكتابة.

لكنّ استرجاع البيوت عبر الكتابة يلزمك أن تكون شبيه المتشرد، ترفع رأسك ولا ترى سقفا تصطدم به نظراتك، ولا أبواب تصدّ الهارب من خطوك، ولا نوافذ تتكسر على حوافها كل الحكايات التي خرجت من طفولتك.

يلزمك أن تستدعي حواسك دفعة واحدة، تستدعي منها الأكثر ضررا بفعل الاستهلاك، والأكثر خبرة في مسالك الطرق التي تؤدي إلى إحساسنا بالبيت من الداخل، فالإحساس بالرائحة مدخل محفز للغة؛ كي تستدعي كلماتها، وتستدعي معها ما علق على أطرافها من أحاديث، قيلت تحت ضوء خفيف، في إحدى غرف المنزل، أو على عتباته أو بين ممراته. يلزمك أيضا أن تحرث الحقل كاملا، وتعيد غرسه من جديد؛ لأن بستان طفولتك خارج المنزل يختلف عنه داخل المنزل، فالأول بإمكانك أن تستعين على حرثه بالأصدقاء والمقربين من العائلة، بينما الثاني لا يمكنك الاستعانة بأحد غيرك، أنت واللغة فقط وثالثكما البيت الذي ترسمه في مخيلتك، البيت الذي تحاول الإمساك به بالكلمات، ووضعه كتمثال أثري في متحف، يأّبى أن يكون فريسة سهلة للاصطياد، فكلما تقدمتَ وأمسكت بجانب منه، ينفلت الجانب الآخر، ويظل المعنى في جملتك معلقا، لا تعرف، هل ترجع الكلمة إلى معناها ما قبل الحديث عن البيت أم تغامر بها كي تستحوذ، على الأقل بجزء من معنى البيت.

إنها لعبة البحث عن البيت الذي أضعته في داخلك، ولم تستدل عليه، لا بالحواس ولا بالكتابة.